الكاتب: محمد عبيد
يتعاطى بعض المسؤولين اللبنانيين مع الموفد الأميركي آموس هوكشتين على أنه «الساحر» الذي يجيد إبتداع حلول مُركبة تحقق جزءاً من المصالح الوطنية اللبنانية، وفي الوقت نفسه تناسب واقعهم في السلطة، ومن جهة أخرى يجيد لغة إقناع أصحاب القرار السياسي الإسرائيلي بتلك الحلول إنطلاقاً من ثقتهم بحرصه على المصالح الإستراتيجية لكيان العدو، بالإضافة إلى قدرته على تحقيق هذه المصالح بأمنٍ وسلام، من دون الحاجة إلى تكبيد هذا الكيان أيّ تبعات أمنية أو عسكرية تُضعِف تفوقه المفترض أو تعيق حركته عند الحاجة.
ولعل أبرز دليل على صحة هذه القراءة هو ما حصل فعلاً في ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، ومن دون الدخول في تفاصيل هذا الملف مجدداً، تكفي الإشارة إلى أنّ حقل «كاريش» الذي تنازلت السلطة اللبنانية عن جزءٍ أساسي منه، قد يكون هو المنصة الرئيسية المنتجة المتبقية لدى كيان العدو في خضم إستغراقه في عدوانه على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وعلى جنوب لبنان.
اليوم يعود هوكشتين إلى لبنان حاملاً معه مقدّمات حلول للحدود البرية اللبنانية مع كيان العدو، حيث ينطلق قطار التفاوض غير المباشر وكالعادة بوساطة أميركية بعد وقف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين وتباعاً وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية «الإسرائيلية».
لن أقول إنّ السذاجة هي التي تحكم عقول الذين يعتقدون بإمكانية الوصول إلى تلك الحلول حول الحدود البرية الجنوبية، ذلك أنّ هؤلاء يعرفون ما يريدون وماذا سيفعلون لإستكمال الإطباق على كافة الملفات العالقة بين لبنان وكيان العدو بما يؤدي إلى تفكيك العِقد التاريخية القائمة، إنطلاقاً من فرضية أنّ ما تم إنجازه على المستوى البحري من خارج السياق الدستوري والقانوني وحتى المصلحي، يمكن أن ينسحب على الجبهة البرية مع بعض التعديلات في المقاربات وآليات الإخراج، وذلك بهدف إخماد النار التي تشتعل بين الحين والآخر بين المقاومة في لبنان وجيش العدو نهائياً، بحيث تسقط كافة «الذرائع اللبنانية» التي يرتكز عليها «حزب الله» في خطابه السياسي والإعلامي لتبرير تدخله في أي إشتباك قد يدور بين أي من حلفاء «الحزب» في محور المقاومة وكيان العدو الإسرائيلي.
لكن يمكن القول إنّ تبسيط إمكانية التوصل إلى حلول جذرية لإعتداءات حدودية برية إسرائيلية على أراضي لبنان ومياهه وثرواته بدأت قبيل إكتمال نشوء كيان العدو وتوسعت مع حروبه على دول الطوق وبخاصة سوريا، هذا التبسيط ينم عن قراءة غير دقيقة للتحولات في مقاربات أطراف محور المقاومة وبالأخص منها «حزب الله» لأبعاد العدوان الإسرائيلي الوحشي على الفلسطينيين وكذلك لتداعياته المحتملة وربما المدمرة على لبنان، وخصوصاً على ديمومة معادلة «الردع» التي تعتبر المقاومة الإسلامية في لبنان أنها دفعت أثماناً غالية من دماء مجاهديها وشهدائها وجرحاها وتضحيات عوائلهم كما معظم اللبنانيين من أجل تكريسها وتثبيتها كعنوان أساسي في مسار الصراع الأبدي مع العدو الإسرائيلي.
وبالتالي فإنّ تجاوز معادلة «الردع» يستوجب حلاً جذرياً وفعلياً ونهائياً لإعتداءات إسرائيل على لبنان، على أن ينطلق هذا الحل من مبدأ سيادة الدولة اللبنانية على حدودها الجنوبية كافة بما في ذلك مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، إضافة إلى تصحيح الخطأ «الغبي» الذي كرّس فصلاً بين آخر نقطة برية وبداية خط الحدود البحرية أي ما يسمى بنقطة الـ B1 وبالتأكيد إلغاء خط الطفافات.
لذا أعتقد جازماً أنّ ما طرحه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله من إمكانية وجود فرصة تاريخية لتحرير كامل الحدود البرية اللبنانية ووصلها بالحدود البحرية كان في هذا السياق، وهي إمكانية تفترض نمط وآليات تفاوض فيه الكثير من الجدية والحرفية والأهم «الوطنية»، وهي للأسف أمور لم تتوفر لدى بعض المسؤولين اللبنانيين خلال عملية التفاوض حول الحدود البحرية.
غير أنّ المفارقة الغريبة أن يستنتج بعض السياسيين والإعلام أنّ الفرصة التاريخية التي تحدث عنها السيد نصرالله والتي يمكن إعتبارها بكل ثقة فتحاً سياسياً متقدماً في حال قام بتلقفها المعنيون في دوائر البيت الأبيض الممسك اليوم بقرار الحرب والسلم في فلسطين ولبنان والمنطقة بأكملها، أن هذه الفرصة يمكن أن تعني إقرار «حزب الله» بالتزام تطبيق القرار 1701.
أصلاً مجرد طرح حل جذري ومستدام لمسألة الحدود الجنوبية وفق النقاط التي تحدث عنها أمين عام «حزب الله» يعني أن القرار 1701 كما القرارات الدولية التي سبقته وخصوصاً منها الـ1559 لن يكون لها مكان في الصياغات المفترضة حول الحل النهائي، وتحديداً في ما يتعلق بالحدود البرية المعترف بها دولياً والتي تجاوزها القرار 1701 وإستعاض عنها بما سُمي «الخط الأزرق» أو الحدود المُفتعلة.
لذلك كله تبدو مهمة آموس هوكشتين مستحيلة إذا كانت تتحرك من منطلق الدعوة إلى الإلتزام بمندرجات القرار 1701 حصراً، أي بمعنى آخر أن ما هو مُضمر في ثنايا بعض المواقف اللبنانية كما الغربية وخصوصاً منها الأميركية، هو دعوة لفصل المسار اللبناني عن مسار المواجهة المفتوح مع العدو الإسرائيلي ومن خلفه الأميركي في المنطقة كافة. والأهم يتعلق بمساحة الوقت التي يمتلكها هوكشتين ومعه إدارته لمعالجة قضايا متفجرة عالقة بين لبنان و»إسرائيل»، قبل أن تنغمس هذه الإدارة في ضجيج الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة الأميركية. والأكثر أهمية أنه إذا كانت إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن راغبة بإنجاز ما يعوضها فشل سياساتها في غزة والمنطقة، فهل لمحور المقاومة وسيده في المنطقة العربية مصلحة في إهداء هذه الإدارة المتهالكة والملطخة أيدي مسؤوليها بدماء الأبرياء الفلسطينيين إنجازاً سياسياً بحجم تسوية حدودية لبنانية «إسرائيلية» يمكن أن يُقفل ملفاً سياسياً يتعلق بصراعٍ وجودي بين لبنان و»إسرائيل؟!
الإرتقاء إلى مستوى البحث في الإستفادة من إنجازات المقاومة وتضحياتها لإقتناص فرصة تاريخية لتحرير الأراضي والمياه اللبنانية المحتلة، يستوجب نضوجاً وطنياً عالياً ورؤية إستشرافية لمسار ديمومة الكيان الإسرائيلي، وهي مواصفات يجب أن تتوفر في رجالات «دولة»، من نوع مختلف عن الذي عهدناه، يمكن أن يستثمروا وطنياً في تلك الإنجازات والتضحيات لإنقاذ لبنان وتحريره وإستعادة سيادته.