معركة رئاسة الجمهورية: بين لعبة التوازنات واشتباك المصالح الداخلية والخارجية

معركة رئاسة الجمهورية: بين لعبة التوازنات واشتباك المصالح الداخلية والخارجية

كتب المحامي حسين رمضان:

يتجلى المشهد الرئاسي اللبناني كساحة صراع مركب بين أطراف داخل ية تسعى لتأمين مواقعها التقليدية، وضغوط خارجية تسعى إلى فرض إيقاعها على التوازنات اللبنانية الهشة. رئيس مجلس النواب نبيه بري يستخدم ورقة الدستور كخط دفاع أول في مواجهة المرشح المدعوم خارجيًا، قائد الجيش العماد جوزيف عون، بينما يتحرك رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع ضمن لعبة المساومة لترشيح شخصية توافقية تحافظ على حضوره كرقم صعب في المعادلة المسيحية.

التمسك بضرورة تعديل المادة 49 من الدستور، التي تمنع كبار الموظفين من الترشح للرئاسة قبل مرور عامين على استقالتهم، يُبرز البعد السياسي الكامن وراء المواقف القانونية. بري، المعروف بقدرته على قراءة المعادلات الداخلية بمهارة، يدرك أن وصول جوزيف عون إلى قصر بعبدا سيعيد رسم الخريطة السياسية على نحو قد يُضعف نفوذه. العماد عون، الذي يحظى بدعم إقليمي ودولي واسع، يُعد مرشحًا يمتلك قوة مستقلة قد تُضعف تحكم الطبقة السياسية التقليدية في القرار الرئاسي. من هنا، يسعى بري لتثبيت موقعه للحافظ على النظام الطائفي التقليدي عبر التمسك بالدستور كعائق أمام تسونامي التغيير الذي قد يجلبه عون.

على الضفة الأخرى، يظهر سمير جعجع كطرف يُدير معركته من منظور استراتيجي مزدوج. أولاً، يُدرك جعجع أن انتخاب قائد الجيش قد يُعيد تشكيل الخارطة المسيحية بما يُضعف قوته داخل الشارع المسيحي. عون ليس فقط شخصية توافقية مدعومة خارجيًا، بل أيضًا يمتلك شرعية وطنية قد تضعف هيمنة الأحزاب التقليدية على القرار المسيحي. ثانيًا، يتحرك جعجع بمنطق “رجل الدولة”، حيث يطرح نفسه كصانع توافق مستعد لدعم مرشح وسطي كجهاد أزعور. هذا الموقف يتيح له البقاء ضمن دائرة التأثير دون أن يخسر شعبيته أمام جمهوره المسيحي أو حلفائه الإقليميين.

الدعم الدولي لجوزيف عون يُعقّد المشهد أكثر. الضغوط الفرنسية والأمريكية، التي تسعى إلى إنهاء الفراغ الرئاسي، تصطدم بعقبات داخلية تتصل بمنظومة المحاصصة الطائفية اللبنانية. القوى الداخلية، رغم تظاهرها بالانفتاح على التسويات، تدرك أن انتخاب مرشح مدعوم خارجيًا كعون قد يُكرّس هيمنة القرار الدولي على الداخل اللبناني، مما يضعف قدرة هذه القوى على فرض أجنداتها السياسية والاقتصادية.

في العمق، تُظهر المعركة الرئاسية اشتباكًا بين مشروعين: الأول يتمثل في تعزيز الدولة عبر دعم مرشح يملك مقومات الإصلاح والتغيير، والثاني يتمسك بمنظومة توازنات الطوائف التي تؤمّن للأطراف التقليدية استمرار سيطرتها على السلطة. هذا الاشتباك ليس جديدًا على الساحة اللبنانية، لكنه اليوم يأخذ بعدًا أكثر خطورة في ظل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي غير المسبوق، حيث باتت السلطة في لبنان تواجه امتحانًا وجوديًا يُهدد شرعيتها أمام شعب يئن تحت وطأة الأزمات.

الحديث عن تعديل الدستور، ورغم ما يبدو عليه من منطقية قانونية، يُستخدم كذريعة لإطالة أمد التعطيل السياسي. في سوابق عديدة، تجاوزت الطبقة السياسية هذه العقبة عبر توافقات تُغلّب السياسي على القانوني. هنا، يصبح التلويح بالدستور وسيلة لتعزيز شروط التفاوض، لا أكثر.

إزاء هذه الديناميات، يظل لبنان عالقًا في حلقة مفرغة. الداخل مُقيّد بارتباطات طائفية وسياسية تعيق أي اختراق حقيقي، والخارج يتعامل مع لبنان كملف جانبي ضمن أولويات إقليمية أكبر. السؤال الذي يطرح نفسه: هل سيُفضي الضغط الدولي إلى فرض تسوية تقود إلى انتخاب مرشح وسطي كجهاد أزعور، أم أن القوى الداخلية ستستمر في لعبة الاستنزاف، تاركة البلاد رهينة فراغ قاتل؟

في المحصلة، معركة الرئاسة اللبنانية ليست مجرد استحقاق دستوري، بل هي صراع وجودي على مستقبل النظام السياسي ككل. وبين مناورات بري وتكتيكات جعجع، يبدو أن لبنان يتجه إلى مرحلة جديدة من الانسداد السياسي، في انتظار لحظة توازن دولي-إقليمي قد لا تأتي قريبًا.

Exit mobile version