كمال جنبلاط في ذكراه الـ48… التّقوقع مقتلة والانفتاح خلاص

كمال جنبلاط في ذكراه الـ48… التّقوقع مقتلة والانفتاح خلاص

كتب ايمن جزيني في “أساس”:

لم يغِب كمال جنبلاط يوماً، ليحضر اليوم. لم يفارقنا قطّ. نحن الذين فارقناه. فارقناه ونأينا كثيراً. نأينا حتّى صار السجن الصغير زنزانةً في السجن الكبير. وحتى صرنا زوّاراً موسميين نحيي ذكرى استشهاده لدقائق معدودات، بالقرب من ضريحه أو في ندوة أو خلف شاشة، ثمّ نقفل عائدين إلى سجننا، تاركين “المفتاح” تتكدّس فوقه الأيّام والشهور والسنون.

لم نقرأ موته يوماً. لم نعد إلى كتبه. حتّى إنّنا إلى الآن لم نعرّج حقّاً على مغامراته. أكبر منّا “المعلّم” أو نحن أصغر منه؟ سبقناه أو لا يزال يسبقنا؟ أسئلة كثيرة تشتعل في الرأس في ذكرى استشهاد القائد الوطني واليساري، والزعيم الدرزي، والمفكّر العرفاني التقدّمي الاشتراكي، كمال جنبلاط، الثامنة والأربعين.

أحقّاً مضى نصف قرن إلّا سنتين على اغتياله؟

لا تشبه ذكرى كمال جنبلاط هذه السنة سابقاتها. هي أكثر طزاجةً هذه المرّة. كلّما تعتّقت الذكرى طابت وحضرت، بل صارت أقرب من أيّ وقت مضى. لا تشبه ذكراه هذه السنة أيّ سابقة لها، ولأسباب عدّة، أبرزها أنّها الذكرى الأولى بعد القبض على القاتل، اللواء إبراهيم حويجي، والأولى بعد سقوط نظام القتل، الأسد الأب ولاحقاً الابن.

ولو كنّا بخير، لانتهت الأمور هنا إلى: قتيل وقاتل، جريمة وعقاب، والتاريخ بينهما. لكنّ القتيل هنا ثأره ليس عند القاتل. ثأره عند القتل، فعلاً وسلوكاً وفكراً وممارسة. ثأره عند فكرة الإلغاء ورفض الآخر. والدليل أنّ القاتل مقبوض عليه.

في عزّ وقتها

لا تكتسب ذكرى كمال جنبلاط اليوم أهميّتها ممّا سبق فحسب. ذكرى اغتيال جنبلاط اليوم، في وقتها. في عزّ وقتها. وكأنّها خُلقت لأيّامنا هذه، حيث تُطرح بقوّة قضايا لا مناصّ من العودة إلى كمال جنبلاط فيها، وعلى رأسها مسألة الأقلّيّات عموماً في هذه البلاد التعيسة، وفي مقدَّمها طائفة الموحّدين الدروز.

تحلّ ذكرى كمال جنبلاط اليوم، والأقلّيات قلقة على “وجودها”، في ظلّ ما يجري من قتلٍ، سواء إسرائيليّ أو أهليّ: الشيعة في لبنان، العلويون في الساحل السوري، الدروز على حدود إسرائيل وضمنها، والأكراد على مبعدة رصاصة من تركيا. والتغيير الذي جرى في سوريا ليس حدثاً عابراً بقدر ما هو زلزال بالنسبة للأقلّيات.

جنبلاط، زعيم أقليّة دينية أوّلاً وأخيراً. هذه أحكام السجنَين؛ الصغير والكبير. الاشتراكية والتقدّمية والأممية والإنسانية والنضال ضدّ الإمبريالية والرجعية ووو… تنتهي كلّها في زنزانة ضيّقة في السجن الصغير حيث سقف ونافذة وقضبان وباب وأقفال وسجّانون. إن اتّسعت الزنزانة في عينيك، ارتحت وأرحت. وإن ضاقت، فالقتل والإلغاء.

اقرؤوا حياته.. واقرؤوا موته!

فهم “المعلّم” اللعبة جيّداً، لكنّه متمرّد بالفطرة والفكر. ماذا فعل؟ خرج من القوقعة إلى رحاب العالم، ومن الطائفة إلى الأمّة، ومن الجبل إلى النضال في سبيل الحرّية، فلم يعِش زعيماً محلّياً، أو زعيماً درزياً يحصي أعداد ناخبيه، بل خرج من الظلمات إلى النور، قائداً تقدّمياً ومناضلاً أمميّاً تعرفه مشارق الأرض ومغاربها.

يُذكر كمال جنبلاط فتحضر في الذهن فلسطين وسوريا ومصر والمغرب العربي من أقصاه إلى أقصاه، وفيتنام والاتّحاد السوفيتي وفرنسا وأميركا اللاتينية والصين الشعبية… ولبنان. يُذكر اسمه فتلمع الأفكار في البال: الحرّية والتقدّمية والاشتراكية والديمقراطية والإنسانية والصوفيّة… وتُستحضر صوره، فيحضر عبدالناصر وغاندي ونهرو وخروتشوف وسوكارنو ونكروما ولومومبا ووو… بهذا عبّد كمال جنبلاط الطريق للأقلّيات كلّها في بلادنا، ودعاها دعوةً صريحةً إلى كسر الشرنقة، والخروج من التقوقع والانغلاق ورفض الآخر. قادها إلى فضاءات أوسع، إلى الأمّة وإلى الأممية. نقلها من العدد إلى الدور.

لم يكتفِ كمال جنبلاط بأن يكون “معلّماً” وبوصلةً في حياته ومسيرته فحسب، بل فعل ذلك في موته. فعل ذلك حين عاد إلى الجغرافيا الضيّقة والقاتلة، وإلى التاريخ المكتوب بحبر الطائفية والأقلّويّة، وإلى الثأر، وإلى الحسم والإلغاء، وإلى الحسابات المحلّية والمغامرات الأهليّة، والاستقواء على الآخر.

يومها لم يفهم الموارنة الدرس. لاحقاً، أي أخيراً، لم يفهمه الشيعة أيضاً، ووصلنا إلى ما نحن فيه. فهل تقرأ الأقلّيات في سوريا، خاصةً الموحّدين الدروز والعلويين والأكراد، جيّداً سيرة كمال جنبلاط؟ هل تتعلّم من مسيرته؟ هل تفكّ حروف موته؟ هل تدرك أنّ السلاح لا يحسم ولا يحمي، وأنّ آلة القتل لا تجرّ إلّا القتل، وأنّ الكلمة والفكرة أكبر من الجغرافيا وأوسع، وأنّ من يغلق الباب عليه يضمحلّ حتى يتلاشى ومن يفتح الباب تذروه الرياح فينبت في كلّ أرض ويبقى ويكثر، وأنّ الآخر درع وحضن وحصن؟ هل تدرك الأقلّيات أنّ الأمّة فضاؤها رحب وجغرافيتها تتّسع للجميع؟ وهل تدرك الأمّة ذلك أيضاً؟

يبسط كمال جنبلاط بسيرته ومسيرته، أمام الأقليّات، الخيارات كلّها: المتاح منها وغير المتاح. في شخصه تجتمع سير الأقليّات كلّها، وتحضر أسئلتها، وترتسم معالم دروبها. ذكراه، في زحمة القتل والإلغاء والأخبار السوداء من كلّ حدب وصوب، تقول الكثير… فمن يسمع؟

Exit mobile version