عن قصد أو عن غير قصد، لطالما تعرّضت النساء للعنف والتمييز في الحياة السياسية والاجتماعية وخصوصاً عند استلامها مناصب معينة. وقد احتلّ لبنان المرتبة 132 من أصل 146 دولة وفق المؤشّر العالمي للفجوة بين الجنسين لعام 2023، مسجّلاً تراجعاً بارزاً بـ 13 مركزاً عن عام 2022.
ومجلس النواب شاهد على ذلك، فقد تكرّرت نقاشات حادّة في حالات كثيرة، ما سلّط الضّوء أكثر على العنف ضدّ المرأة في السياسة، الذي تعدّى السجال ليصل إلى حدود التجريح الشخصي والكلام النابي وغيره.
يبرز هنا دور وسائل الإعلام، التي وإن عن غير قصد سقطت مرّات عدّة في فخّ ومصيدة التمييز ضدّ المرأة وتأطيرها في صورة نمطية، لذا من الضروري السؤال ما هو واقع التغطية الإعلامية لحوادث العنف ضد المرأة في السياسة؟ وما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الإعلام في تغطية هذه المواضيع؟ خصوصا أنه وفي الكثير من الأحيان تكون التّغطية الإعلاميّة لهكذا أحداث ضبابيّة أو متحيّزة أو تقتصر على نقل الخبر فقط ما ينعكس تجاهلاً للأبعاد الأساسية للموضوع.
تغطية السجالات السياسية: المشاهدات على حساب المعالجة المهنيّة والمعمّقة
شكّل السجال الحاد الذي حصل بين النائبة بولا يعقوبيان والنائب سليم عون وما تخلّله من كلام مهين وتهجّم شخصي أمام عدسات الكاميرات دليل لفهم واقع التغطية الاعلامية التي اقتصرت على نقل الخبر من دون التعمّق أو الإضاءة على دلالاته وخلفيّاته.
يظهر ذلك جليًّا في العناوين التي اعتمدتها معظم المواقع الإخبارية لتغطية ما حصل:
بالفيديو- سجال حادّ… سليم عون يشتم بولا يعقوبيان: “إنتِ المنحطة”
شاهد.. سجال حاد بين بولا يعقوبيان وسليم عون في جلسة انتخاب رئيس لبنان
سجال حاد وشتائم بين النواب سليم عون وبولا يعقوبيان وفراس حمدان…”.
هنا، تُشدّد الباحثة والأستاذة الجامعيّة د. جوانّا عازار، لموقع mtv، على أنّ التغطية الإعلاميّة تركّز على الجوانب التي تتضمّن سجالاً وجدلاً أكثر من الأحداث بحدّ ذاتها، أي أنّها لا تتناول الحدث من منظور حقوقي أو اجتماعي. وغالباً ما تسلّط العناوين الضّوء على الإثارة والصّدمات اللفظيّة والهدف من ذلك جذب المشاهدين والقرّاء، ولكنّها تجعل القضيّة سطحيّة وتبسّطها لمجرّد مشاجرة وخلاف بدلاً من أن تحلّل الأسباب وتتعمّق أكثر بالدلالات”.
في هذا السياق، تقول النائبة بولا يعقوبيان إنّ التّغطية الإعلاميّة عادةً ما تكون سطحيّة وعابرة لحدثٍ كهذا، من دون الغوص في أبعاده وانعكاساته على نساء وفتيات يفكّرن في الدّخول إلى الشأن العام، وكم يترك هذا الأمر أثراً كبيراً فيهنّ، ويتسبّب بإبعادهنّ عن السياسة لاعتقادهنّ أنّ هذا المكان شرس وسيّء وفيه حروب وسخة”.
وتظهر نتائج وتأثيرات هذه الأحداث بالأرقام، إذ لا تزال المرأة ممثّلةً تمثيلاً ناقصاً إلى حدٍّ كبير على المستوى السياسي في لبنان بنسبة 6.25 في المئة فقط من أعضاء المجلس النيابي بعد انتخابات 2022، و5.4 في المئة على مستوى البلديّات و1.9 في المئة فقط من النساء المخاتير بعد الانتخابات البلديّة عام 2016، على الرّغم من تزايد ظهور النّساء في الساحتين السياسيّة والإعلاميّة.
وتُتابع يعقوبيان، في حديثٍ لموقع mtv: “لكنّ الإعلام يُمكن أن يصوّب أكثر على المشكلة وأن يغوص في المعطيات ويركّز على الشخص الذي يُمارِس العنف على أنّه هو المشكلة، من هنا يجب الإضاءة أكثر على كيفيّة التصرّف مع المرأة وكيفية تغطية قضاياها من قبل الإعلام لأنّ صوتها يجب أن يكون محصّناً وموضع تقدير”.
أنواع عدّة من التمييز
العنف والتمييز ضدّ المرأة في السياسة لا يقتصر على نوع معيّن، ويتعدّى حدود المجلس إلى وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما أضاءت عليه النائبة غادة أيّوب في حديثها لموقعنا عن طريقة التطرّق إلى المواضيع عند محاورة سيّدة في الشأن السياسي.
إذ تقول أيّوب: “نلاحظ زيادة التركيز في الإعلام على المرأة وليس على مضمون عملها، لاعتبار المقدّم أنّ الشقّ الشخصي يجذب المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً مع انتشار “البودكاست”، معتبرةً أنّ “الاحتراف في العمل الصحافي والإعلامي يتطلّب ضوابط لكي يُساعد في إظهار المرأة كما يجب”.
في هذا الإطار، ترى يعقوبيان أنّ ليس هناك تغطية إعلاميّة تُصيب هذه الحساسيّة بشكلٍ كلّي، فما من وعي كامل بعد لهذا الموضوع. ورغم أنّها تُشير إلى التركيز في المقابلات الصحافيّة معها على السياسة بشكلٍ أكبر، إلا أنّها تلفت إلى أنّ “هذا لا يمنع أن يكون الوقع مختلفاً كون المتحدّثة في السياسة هي امرأة. إذ للأسف، لم نبلغ بعد مرحلة اعتبار مَن يُصرّح هو مجرّد فرد أو شخص، أيّ أنّ الاهتمام ما زال يتوجّه إلى الإضاءة على كيان المرأة”.
في هذا السياق، ترى أيّوب أنّ المرأة هي التي تفرض احترامها وتضع حدوداً تُجبر الآخرين على التزامها في التّعامل معها. وتقول: “لم أكن أتجاوب عندما يتوجّه إليّ صحافيّ في المقابلة على أنّني امرأة “فايتة على السياسة هواية أو بالغلط”. ولا أتجاوب مع هذا النّوع من الأسئلة وأطلب أن أطّلع مسبقاً على مضمون المقابلات لأنّ بعض الصحافيين يأخذون المقابلة إلى سياق آخر، ويصبح الموضوع وكأنّهم يتكلّمون عن عيد الأمّ أو يوم المرأة العالمي”.
تحسين التغطية الإعلامية: ضرورة توحيد الجهود
من خلال ما سبق، يمكن القول إنّ المشهد الإعلامي بحاجة لتغييرات جذرية في كيفية تغطيته لقضايا العنف ضد المرأة في السياسية لكي لا تقتصر على نقل الأخبار فحسب، بل تتعداها إلى دورها في تشكيل الرأي العام وبناء المفاهيم الاجتماعيّة.
وانطلاقا من هنا، ترى المديرة التنفيذيّة لمؤسّسة “مهارات” رولا مخايل أنّ “التغطية الإعلاميّة للمواضيع الجندريّة والعنف ضدّ المرأة في السياسة لا تزال تُعاني من تحدّيات عدة، أبرزها التحيّزات النمطيّة وعدم تسليط الضّوء الكافي على البُعد الهيكلي للتمييز الذي تواجهه النساء في المجال السياسي”.
وتُضيف مخايل، في حديثٍ لموقع mtv، أنّه “في مؤسّسة مهارات، أُجريت دراساتٍ معمّقة حول العنف ضدّ النساء في السياسة، خصوصاً الصحافيّات والنّاشطات اللواتي يواجهنَ تهديداتٍ عبر الإنترنت وخارجه، وخلصنا إلى أنّ الخطاب الإعلامي غالباً ما يُركّز على الأحداث الفرديّة من دون معالجة الجذور العميقة لهذه الظاهرة ومن دون أيّ ربطٍ بالثّغرات في السياسات العامة”.
هنا، وفق مخايل، يأتي دور المؤسّسات والمنظّمات غير الحكوميّة، التي تعمل على تعزيز الوعي عبر الأبحاث وحملات المناصرة والتدريب الإعلامي لتعزيز تغطية مسؤولة وحسّاسة لهذه القضايا.
وتُشير مخايل إلى أنّه و”على الرغم من بعض التحسّن في تناول الإعلام لهذه المواضيع، إلا أنّ هناك حاجة ملحّة لمقاربات أكثر عمقاً وتوازناً تعكس التحديات الحقيقيّة التي تواجهها النساء في المجال السياسي، بعيداً من الإثارة أو التناول السطحي”.
التغطية المهنيّة: كيف يجب أن تكون؟
تشرح الباحثة والأستاذة الجامعية جوانا عازار أنّه يجب عدم تبرير العنف اللفظي في التغطية الإعلاميّة، أيًّا كان مصدره، فهو غير مقبول من الناحية المهنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة سواء صدر عن رجل أو امرأة. وتُضيف: “على الصّحافة المهنيّة أن تطرح الأسئلة مع تحليلٍ للأبعاد الحقوقيّة والاجتماعيّة لهكذا أحداث، وأن تسأل “كيف تتعرّض النساء في السياسة لنوعٍ مختلف من الخطاب مقارنةً بالرّجال؟ وهل العكس صحيح؟ وكيف يؤثّر هذا النوع من الخطاب على تمثيل المرأة في السياسة؟ فهل يمكن أن تتراجع عن الدخول في المعترك السياسي لهذه الأسباب؟ كما يجب على الإعلام ألا يصوّر المرأة على أنّها دائماً ضحيّة أو معتدية بشكلٍ نمطي. وإذا استخدمت لغة حادّة واستخدمها الرّجل نفسها، تكون الأبعاد سلبيّة للمرأة أكثر من الرّجل. لذلك، يجب أن تكون هناك معايير متساوية بالنقد والتغطية الإعلاميّة”.
وتتابع عازار: “على الإعلام أيضاً أن يستخدم لغة مسؤولة وغير تحريضيّة وأن يبتعد في العناوين عن الإثارة، ويلجأ إلى عناوين تعكس الحقيقة (ممكن أن تجذب، ولكن يجب أن تعكس الحقيقة أوّلاً). ويُفضّل أن يعطي مساحة للخبراء أي استضافة خبراء في الإعلام والسياسة، وحقوق المرأة، واختصاصيين بالعلاقات الاجتماعيّة، لكي ينقل إلى القارئ والمشاهد نظرة أعمق لهذه الظاهرة”.
التحدّيات كبيرة في بلد كلبنان يعاني كثيراً من التمييز بكافة أشكاله. فأوروبا التي سبقتنا في وضع هذه المفاهيم والالتزام بها خصوصاً للعاملين في الشأن العام، لا تزال تواجه حوادث تتعلّق بالتمييز الجندري وغيره. ولذلك فإنّ الحلول في لبنان ستحتاج إلى وقت وجهد كبيرين.
تم اعداد هذا التقرير في اطار مشروع “مساحة معلومات آمنة لتعزيز مشاركة النساء في المجال العام” بدعم من هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت. أن محتوى هذا الفيديو لا يعكس وجهات نظر هيئة الأمم المتحدة للمرأة والسفارة البريطانية في بيروت.
ام تي في