اعتاد اللبنانيون قبل سنوات عديدة في نهاية العام قضاء سهرة رأس السنة بأجواء عائلية حتى ساعات الصباح الأولى، فمنهم من يفضل السهرات الصاخبة والحفلات الغنائية ومنهم من يفضل البقاء في البيت بأجواء دافئة ضمن جلسة بيتوتية للاحتفال برأس السنة.
واليوم وبعد الأزمات المتعددة الجوانب التي ما مر ويمر بها لبنان منذ سنوات، فمن أزمة سياسية واقتصادية وتفجير المرفأ وأزمة النزوح ومؤخرا الحرب الإسرائيلىة الممنهجة على لبنان، شريحة لا يستهان بها من اللبنانيين تنتظر هذه الأمسية لتمضيتها بأقل كلفة ممكنة أمام جهاز التلفزيون في منزلها رغم الحفلات الغنائية التي يروج لها هنا وهناك.
ولأن هؤلاء اللبنانيين يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع اللبناني لا يمكن الاستهانة بهم، سعت معظم المحطات التلفزيونية المحلية لجذب انتباه الجمهور لأطول مدة ممكنة واضعة كل قدراتها لتحقيق ذلك الهدف.
وكما كل عام، تبدأ السهرة مع المنجمين إضافة إلى خبراء الكواكب والنجوم، وتبدأ التوقعات بين السلبي والإيجابي، والمشاهد ينتظر التوقع الإيجابي ليتأمل خيرا للمستقبل، و يدعو الله عدم تحقق ما قيل عندما يأتي توقع الكارثة، فما بين توقع بالكوارث، وآخر يطمئنن أن الفرج قادم في نهاية الطريق، يكرراللبناني المقولة الشائعة “كذب المنجمون ولو صدقوا”، لكنه يتابعهم بشدة، وهنا اشارة واضحة الى ان المواطن في لبنان بات معلقا على أوهام كلامية من هنا وهناك.
هي توقعات تطرح تساؤلات تغلف بعبارات عامة وغامضة ومطاطة عن مصير الشعوب في العالم، فهل هي واقع أم خيال أم أنها مخططات اراد أحدهم إبلاغنا بها عن طريق ذلك الرائي مستخفين بعقول المشاهدين، وتسطيح أفكارهم، من خلال اللعب على عامل الخوف لجعل المشاهد يجلس أمام التلفاز.
وسعيا من القنوات لدفع المشاهد الى تصديق التوقعات أو كما يحب البعض تسميته “علم الصور”، تقوم بعرض تقرير لتوقعاتهم في السنة السابقة، مع الإشارة إلى أنهم يعرضون فقط ما تحقق من هذه التوقعات، أما تلك التي لم تصب هدفها بالصدفة، فلا داعي لذكرها كيلا تتزعزع ثقة المشاهد بالنجم المنجم.
توقعات” قد تصيب وقد تخيب” تتحول منذ صبيحة اليوم الأول من السنة ولأيام متتالية، لمحور أحاديث الناس في المجالس العامة وترتفع بالتالي نسبة التخوف والترقب إذ إن درجة تأثرالناس تكون كبيرة تصل حد الإدمان، ويشير علماء الاجتماع إلى أن أول الأسباب التي تدعو الناس لمتابعة ” التنجيم والطالع والأبراج” هو حب الفضول، وكشف غموض المستقبل، فالإنسان دائما يسعى لمعرفة الخفي من الأمور، وهذه صفات يجتمع حولها الإنسان بصرف النظرعن البيئة التي ينتمي اليها، ويفسر علماء الاجتماع الإصرار على معرفة المستقبل لدى الناس على أنه “غياب الاستقرار في كل مناحي الحياة”، والذي “يعمق توق الناس في معرفة المستقبل والسعي للتكيف معه”، ومن وجهة نظر علم النفس فإن “الإنسان يبحث دائماً عن شيء خارج الطبيعة ينقذه”، خصوصاً في حالات الضعف.
هذه الفقرات باتت محط جدل بين فرضيتين، الأولى تقول إن هذا الأسلوب يلبي رغبات المواطنين، والفرضية الأخرى تقول إن هذا الأسلوب تعتمده القنوات كعامل للإثارة والتشويق، وطبعا على حساب أعصاب اللبنانيين دون الأخذ بالعواقب التي يمكن أن تؤثر سلباً في الثقة بالأمن، فهم ” أي المبصرون أو علماء الصورة ” يحتلون شاشات التلفزة ويحققون الربح المادي لكن على حساب زعزعة ثقة اللبنانيين باستقرار المجتمع أمنيا وسياسيا واقتصاديا”.
مدير المركز الكاثوليكي للإعلام الأب عبدو أبو كسم أشار إلى أن “الكنيسة لا تؤمن لا بالتبصير ولا بالشعوذات، وهناك استغلال لمناسبة رأس السنة لجعل الناس يؤمنون بهذا الأمر، ونحن نؤمن بأن العناية الالهية هي التي تحكم حياة الإنسان وليس الحظ أو التنجيم” مضيفاً “يجب حث الضمائر على أن ما يقوم به المنجمون فهو تعد على إرادة الله، ولكن على كل فرد أن يتعلم الاتكال على الرب ويؤمن بما يرسمه الله له في حياته”، ويتابع “سيدنا يسوع قال “شعور رؤوسكم جميعها مُحْصاة” أي أن الله يعلم كل شعرة من حياتنا”.
وهذا ما اجمع عليه الإسلام الذي لا يرى فائدة عملية ولا يرى وجهاً عقلائياً لهذه التخمينات التي قلما تصيب وغالباً ما تخطئ، فلا يليق بالعاقل أن يهدر وقته وعمره في النظر إلى هذه التخمينات إلا من باب التسلية وتمرير الوقت من حين لآخر، على أن التوكل على اللَّه تعالى والعمل بأحكامه هو الذي يرسم المستقبل المشرق والجميل لكل الناس. هذا ما يمكن إجماله في المقام وللتفصيل محل آخر والحمد للَّه ربّ العالمين.
صحيح ان التوقعات الفلكية ليست ظاهرة جديدة في لبنان، غير انها تطورت في الآونة الاخيرة لتصبح موضة تشبه مواسم الفنانين والراقصين، لا بل تضاهيهم شهرة وشعبية، فبعد أن كانت الشاشة اللبنانية متميزة على مدار سنوات طويلة بـ “أميغو العرب” وأمسيات “رياض شرارة” وسهرات الفن واستديوهاته المتنقلة من “تلفزيون لبنان” الى “المؤسسسة اللبنانية للارسال” وغيرهما من المحطات، باتت “سيدة للالهامات” و “صاحب توقعات”، فالترفيه بمعناه الحالي قضى على الذوق، والعقول اهترأت رغم تصديق وترديد عبارة “كذب المنجمون ولو صدقوا” فالجميع دون استثناء يتابع ما يبث على شاشات التلفزيون من توقعات مستقبلية لكن علينا عدم الانغماس والغرق في ما يقولون، فلنحكم العقل دون الانجرار وراء ما يقولونة.
ربى أبو فاضل- الديار