ويبقى الجيش هو الحل…
كتب جوني منير في “الجمهورية”:
ما من شك في أنّ سقوط حكم بشار الأسد في سوريا نهاية العام 2024 شكّل الحدث الأبرز للسنة الراحلة. فعدا عامل السرعة في انهيار تركيبة النظام ووصول فصائل المعارضة إلى دمشق، فإنّ أبعاد ما حصل وتداعياته لا تقتصر على المساحة السورية فقط، بل إنّها تطاول كل جغرافيا الشرق الأوسط والنزاع العنيف الدائر فيها.
ويتفق المراقبون على أنّ فتح «بطن» سوريا في الشكل الذي حصل فيه، سيفتح الباب واسعاً أمام حركة جديدة لكافة المجموعات المختلفة والمتناقضة التي تختزنها المنطقة، والتي راكمت هواجسها بصمت منذ مؤتمر سان ريمو عام 1920. ففي ذلك التاريخ شهد الشرق الأوسط تقاسم دوله بين بريطانيا وفرنسا بعد إقرار تقسيم حدود بلدانه. لكن تبيّن لاحقاً أنّ هذا التقسيم أغفل التناقضات الدينية والعرقية والإتنية، أو في أفضل الحالات قلّل من شأنها. وهكذا راكمت هذه المجموعات مزيجاً من الخَوف والقلق والغبن، ما جعلها عنيفة وسخية في تقديم الدماء وقاسية إذا تمكنت من الوصول إلى السلطة.
ومن هنا، طُرحت أسئلةٌ كثيرة حول الأسباب الحقيقية التي دفعت بواشنطن للخروج عن سياستها القائمة على حماية نظام الحكم العلوي في سوريا، كونه يشكّل ضمانة طبيعية لإسرائيل، والموافقة على قيام سلطة تُمسك بها الأكثرية السنّية ومن خلال جناحها الديني. ولا شك في أنّ السنة الجديدة ستشكّل اختباراً حساساً حول طريقة التعاطي بين الفئات الدينية والقبلية التي تختزنها سوريا والتي تكره بعضها بعضاً.
لكنّ النقطة الأهم، أنّ التركيبة السورية والتي رسمت حدوداً داخلية لها بالدم طوال سنوات الحرب الماضية، باتت مقسّمة بين مجموعات متعدّدة الولاءات. ومن هنا السؤال حول القطب المخفية التي أرادتها واشنطن من التطوّرات السورية. بالتأكيد فإنّ الإجابة عن هذا السؤال الكبير لن يكون غداً أو بعده، فغالب الظن أنّ الإجابة ستظهر بالتدرّج خلال السنوات اللاحقة. وفي هذا الوقت قد تكون هذه المجموعات المتناقضة في حاجة للوعي أكثر منه القوة.
ذلك أنّ الأحداث السورية أظهرت في وضوح أنّ دول مؤتمر «سان ريمو» أو ما بات يُعرَف بدول «سايكس بيكو» هي في الواقع دول وهمية لم ينجح قرن من الزمن من جعلها دولاً حقيقية.
وانطلاقاً من هنا، باشر الأكراد في حركتهم سعياً وراء تحقيق «حلم» الدولة الكردية. فالسلطة الجديدة في سوريا والمدعومة في شكل كامل وواضح من تركيا، تشكّل ذريعة مناسبة للذهاب في الإتجاه المطلوب. فما إن تمّ الإعلان عن سقوط نظام الأسد ونجاح الفصائل الموالية لتركيا في الإمساك بالحكم حتى انطلقت حملة داخل أروقة المؤسسات الأميركية وبمساعدة اللوبي اليهودي الفاعل للذهاب إلى صيغة حكم فيديرالي في سوريا. ووفق المنطق الذي يروّج له الأكراد بأنّهم أكبر مجموعة عرقية ليس لها دولة. فهم موزّعون بين تركيا (20 مليوناً) والعراق (10 ملايين) وإيران (6 ملايين) وسوريا (4 ملايين). طبعاً هذه الأرقام في حاجة لإثباتها كونها تفتقر لأي إحصاء دقيق.
ويتسلّح الأكراد بسردية أنّهم أثبتوا قدراتهم القتالية عندما واجهوا وحاربوا التطرّف الديني «الداعشي»، وهو ما يجعلهم أهلاً لأن ينالوا ميزة الحكم الذاتي على الأقل داخل الدول التي يوجدون فيها. لكنّ أنقرة ترفض رفضاً قاطعاً أي شكل من أشكال الحكم الذاتي، وهو ما ينطبق أيضاً على سوريا. لكن لا بُدّ من الإقرار بأنّ هنالك بداية تجاوب داخل الأروقة الأميركية بأنّ التطوّرات السورية قد تكون جعلت الظروف مهيأة لإعادة النظر في تقسيمات الشرق الأوسط وعلى أنقاض «سايكس بيكو» التي أصبحت غير صالحة وغير ملائمة للإستمرار فيها مستقبلاً.
ووفق ما تقدّم، فإنّ على اللبنانيّين التعاطي بتأنٍّ وبكثير من الوعي مع المشاريع الجاري درسها للمنطقة، وعدم البقاء في دائرة التناحر الطائفي والمذهبي، والتي مزّقت دولتهم وكيانهم وجعلت منها دولة فاشلة، بعدما كانت رائدة دول المنطقة وأنظمتها في ستينات القرن الماضي.
فخلال الأشهر الماضية، سهّل لبنان على إسرائيل قيامها بحربها المدمّرة. ومن الغباء الإعتقاد أنّ الأهداف الحقيقية لإسرائيل من هذه الحرب ستبقى في حدود تأمين أمن حدودها الشمالية. ويصلح التذكير هنا ما كانت قد كشفته إسرائيل حول الأهداف الفعلية لأرييل شارون من حرب لبنان عام 1982. يومها كان شارون يُريد ليس فقط اتفاقية سلام مع لبنان بل أيضاً دفع الفلسطينيّين إلى الأردن والتمهيد لإضطرابات تؤدّي إلى تقسيم الأردن وإنشاء الوطن الفلسطيني البديل. واستتباعاً لا بُدّ من طرح السؤال حول الأهداف الحقيقية لإسرائيل من حربها على لبنان، هل فقط المنطقة الأمنية أم السعي لتغييرات أبعد وأعمق؟
وخلال هذه الحرب، رفع نتنياهو ومِن على منبر الأمم المتحدة، خريطتَين واحدة سمّاها النعمة والثانية النقمة، وهو ما يؤشر إلى «تغيير وجه الشرق الأوسط» كما نادى به سابقاً.
ووفق ما سبق، فإنّ المنطق يدعو لإعادة تحصين الداخل اللبناني، مرّة بانتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من كانون الثاني، ومرّة أخرى بدعم الجيش اللبناني كونه الوحيد القادر على نَيل غطاء الشرعية الدولية ودعمها، بالإضافة إلى أنّه القادر على إقفال كل الثغرات الحدودية مع سوريا، والتي قد تشكّل ممرّات ملائمة لكل أشكال المخاطر الأمنية المستقبلية.
وثمة آمال مرتفعة باحتمال إنتاج رئيس جديد للبنان طال انتظاره في الجلسة المحدّدة في 9 كانون الثاني، وتوحي بها «عجقة» الزوار. فبالإضافة إلى الوزيرَين الفرنسيَّين واللذَين سيحملان رسالة من ماكرون إلى الرئيس نبيه بري، هنالك زيارة الموفد الأميركي آموس هوكشتاين، والتي ستتزامن على الأرجح مع زيارة لوفد سعودي رفيع سيلتقي أيضاً الرئيس بري، لتأمين نجاح جلسة الإنتخابات الرئاسية. وهوكشتاين الذي سيبحث في ملف الخروقات في الجنوب سيتطرّق أيضاً إلى الملف الرئاسي. هذا مع العلم أنّ تنسيقاً أميركياً ـ سعودياً حصل في العمق حول الملف الرئاسي، وهو ما ستترجمه زيارة الوفد السعودي. مع الإشارة هنا إلى التوقيت الذي اختير بعناية لدعوة قائد الجيش العماد جوزف عون إلى السعودية، والتي توّجها بلقاء مع وزير الدفاع وتمّ الإعلان عنه رسمياً. وستعيد السعودية فتح باب مساعداتها للجيش اللبناني في وقت هو بأمسّ الحاجة فيه لذلك بسبب مهمّاته جنوباً وعند الحدود مع سوريا بالإضافة إلى تحدّيات الداخل.
قد يبدو المشهد شديد التعقيد والمستقبل محفوف بالمخاطر، لكنّ مواجهة التحدّيات تحتاج إلى بعض التبصّر والخروج من الأنانيات والحسابات الضيّقة.