الاخبار الرئيسيةمقالات

وقائع المفاوضات حول مصير سلامة

الاخبار - ابراهيم الامين

مَن يحمي رياض سلامة؟
ليس في لبنان من هو أقوى من رياض سلامة، أو من لديه هذا النفوذ الاستثنائي الذي حفره الرجل على مدى ثلاثة عقود في كل جوانب الدولة. لم يكن يوماً حليفاً لأيّ رئيس للجمهورية، لكن لم يأت إلى قصر بعبدا من نجح في تغييره. لم يسبق سلامة إلى منصبه سوى الرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس النيابي، ورئيس المجلس، كما بقية أعضاء المجلس، لم يكن على جدول أعمالهم يوماً بند اسمه حاكم مصرف لبنان. ولا داعيَ للحديث والشرح عن علاقته مع من تعاقبوا على رئاسة الحكومة، والأمر نفسه ينطبق على كل زعماء القبائل والعصابات المسماة «جماعات لبنانية».
رياض سلامة يحظى، أولاً وأخيراً، بحماية أقوى مؤسسة تحمي النظام العفن في لبنان: البطريركية المارونية في بكركي. والبطريرك بشارة الراعي هو من يرفع سيف الله فوق كل من يفكر في النيل من الحاكم. ولا يقتصر حبّ سلامة على بكركي، فهو حبّ جرف معه دار الفتوى والمجلس الشيعي ومشيخة عقل الدروز، وبقية الكنائس المسيحية. وفوق هؤلاء، كان سلامة الرجل الأكثر مهابة عند كل من تعامل بالمال والأعمال في لبنان خلال ربع قرن. ما من مصرف أو مصرفي لا يطيعه. ولا يوجد رجل أعمال متوسط أو كبير لا يخشاه. وما من تاجر أو صاحب صناعة ليس لديه عمل معه… ولا يمكن، بالطبع، فصل نادي الإعلام والسياسيين عن هذه الدائرة. هل يحتاج الرأي العام، فعلاً، إلى من يكشف عن حجم القروض والمساعدات التي قُدّمت لغالبية وسائل الإعلام وكبار الإعلاميين في لبنان (هناك ملف بات جاهزاً لدى المعنيين لكن لا نعلم من يمكنه كشفه)؟ وإلى جانب هؤلاء، جيش المنظمات غير الحكومية، والجيش وقوى الأمن الداخلي وكل الأجهزة الأمنية من دون استثناء، أضف إليهم جمعيات خيرية وأهلية وأندية رياضية ومؤسسات تربوية وجامعات ومستشفيات وكل من عاش في فقاعة الاقتصاد الريعي خلال ثلاثة عقود.. كل هؤلاء هم جيش رياض سلامة.
لكن ما لم يكن ظاهراً للعيان، وإن بدت آثاره واضحة، هو في حجم نفوذ الرجل داخل القضاء، السلطة التي يقال إنها حصن العدالة وحامية الحقوق. وهي، اليوم، تواجه واحداً من أقسى الاختبارات يتعلق بحقوق الناس، العاديين منهم والمجتهدين. القضاء الذي لا يجرؤ معظم من يمسكون بحلقاته على ملاحقة سلامة وكل ناديه المصرفي والمالي والتجاري الذي لم يتوقف حتى اليوم عن اللعب بما تبقّى من اموال الناس والدولة.

لنترك جانباً الحصانة الخارجية، وهي لا تقتصر على الولايات المتحدة، صاحبة الكلمة الفصل في كل من يريد حمل الدولار، بل تشمل عواصم أوروبية وعربية أيضاً، من أنظمة سقطت لكنّ رجالاتها أبقوا أموالهم أو حفظوها وسيّروها في مسارب النظام المالي اللبناني، وبينهم من فرض بقوة المال تهريب ما أمكنه بعد 17 تشرين.
اليوم، ثمّة جديد في ملف رياض سلامة. وبعد فتح التحقيقات التي رافقت عمليات التدقيق الجنائي في حسابات الدولة ومؤسساتها، ومنها مصرف لبنان، وترافقت مع التحقيقات الجارية في الخارج، صارت الصورة مختلفة قليلاً. وثمة شعور قوي لدى غالبية المتعاملين بالملف أن وضع رياض سلامة في شباط 2022 لا يشبه وضعه في أي زمن سابق، وأن المجريات التي سمحت بتحقيقات، ولو ضاقت عليها الجدران، تقود إلى خلاصة أكيدة: إن بإمكان القضاء اللبناني الادّعاء على رياض سلامة بجرم اختلاس الأموال العامة!
ماذا في المجريات؟
يوجد اليوم في مكتب المدعي العام التمييزي غسان عويدات ملف متكامل يتضمّن ما يكفي من أدلة ومعطيات تسمح بالادّعاء على سلامة. لكن من يقوم بالخطوة؟ هل يفعلها عويدات نفسه، أو يطلبها من مدّع عام آخر، كالمدعي العام المالي علي إبراهيم مثلاً؟ وهل يبادر إلى الخطوة من دون العودة إلى السلطة السياسية، أم يعود إلى نغمة التنسيق والتشاور «حفظاً للمصلحة الوطنية العليا»، وعندها نعود إلى مربع حفظ الأوراق في الأدراج؟ هذا ما يقودنا إلى أنه، على المستوى القضائي، ليس هناك اليوم من يجرؤ على خطوة الادّعاء. وكلٌّ سيطلب لنفسه الوقت للدرس والتشاور مع أقطاب النادي السياسي. ولذلك حصل الآتي:
– وجد القاضي عويدات أن الملف أكبر من أن يتحمّله هو أو القضاء. لذلك قال إن قراراً بهذا الحجم يجب أن يصدر عن أعلى سلطة سياسية، أي عن مجلس الوزراء. لذا حمل ملفه وتوجه إلى الرئيس نجيب ميقاتي، وصارحه بأن ما لديه يكفي للادّعاء على سلامة وربما ما هو أكثر. وشرح عويدات لميقاتي أن ما يجري من تحقيقات في الخارج لا يمكن وقفه، وبالتالي على الحكومة أخذ القرار. فإما إن تبادر إلى تنحية سلامة وتعيين حارس قضائي على مصرف لبنان في حال لم تعيّن بديلاً عنه، أو تسمح للنيابة العامة بالادعاء عليه وبالتالي يصبح الحاكم ملزماً بالتنحي ريثما ينتهي التحقيق.
– لم ينتظر ميقاتي كثيراً للإجابة. أولاً، هو مقتنع بأن قرار إقالة سلامة ليس محل توافق في مجلس الوزراء. وثانياً، هو يشرح لمن يهمه الأمر الأسباب الخارجية التي تجعل سلامة محصّناً من أي قرار حكومي في لبنان. لكن لميقاتي نظريته التي تقول إنه لا يجوز للبنان أن يبادر إلى خطوة من هذا النوع وهو يستعد لتفاوض صعب مع صندوق النقد الدولي، وأن سلامة ضامن لعدم حصول انهيار كبير في سعر العملة الوطنية، وقد اتفق معه على آليات لجعل سعر الدولار أقل بكثير مما كان عليه نهاية العام، ويسعيان إلى جعل سعر الدولار يتراجع عن سقف العشرين ألف ليرة أيضاً.

أبلغ ميقاتي عويدات أنه لا يمكن المبادرة إلى خطوة من هذا النوع من دون العودة إليه. وبالطبع، لم يغب عن بال رئيس الحكومة لفت انتباه المدعي العام التمييزي إلى أنه هو من منع تمرير مشروع تشكيلات قضائية واسعة كانت ستطيح به. وذكّره بأن الرئيس ميشال عون والنائب جبران باسيل اجتهدا لإقرار تشكيلات تطيح به، وكادا يُقنعان رئيس المجلس بالأمر، وأنه هو من منع هذه الخطوة. وبالتالي، على عويدات أن يتصرف على قاعدة أن ميقاتي هو مرجعيته اليوم، خصوصاً بعد الوضع الذي استجدّ بغياب الرئيس سعد الحريري. وكان ميقاتي حاسماً مع عويدات بأن أي خطوة تخصّ حاكم مصرف لبنان يجب أن تُناقش معه مسبقاً وتنال موافقته. ولم يكتف ميقاتي بذلك، بل سأل عويدات عمن يمكنه أن يدير مصرف لبنان في حال إقالة سلامة اليوم، وهل يمكن لحارس قضائي أن يدير اللعبة بطريقة ذكية؟ لينتهي إلى خلاصة: سأناقش الأمر مع عون وبري ونتخذ القرار المناسب.
– قصد ميقاتي رئيس الجمهورية، وأبلغه أن إطاحة سلامة اليوم ستؤدي حكماً إلى تعطيل مشروع التفاوض مع صندوق النقد الدولي، وأن مثل هذه الخطوة ستخلط الأوراق، وأن الليرة ستكون مهدّدة بانهيار غير مسبوق، ما يهدّد باندلاع موجة احتجاجات شعبية، قبل أن يخلص إلى الموقف – التهديد: إذا أقيل سلامة، سأستقيل فوراً!
– لدى رئيس المجلس النيابي صورة للمشهد من زاوية ثانية. يعرف بري أنه لم يعد بالإمكان حماية سلامة أكثر. وهو مطّلع أيضاً على تفاصيل كثيرة تتعلق بالتحقيقات الجارية. لكنه أدار الأمر مع ميقاتي ومع الآخرين من زاوية أن إقالة الحاكم تنقل صلاحياته إلى نائبه الأول، وهو شيعي، وفي حال لم يكن هناك تفاهم أو اتفاق على بديل عن سلامة، سيتحول قرار إقالته أو عزله إلى مشكلة بين الشيعة والموارنة على من يدير مصرف لبنان، مشيراً إلى أنه لا يمكن رمي كرة النار بيد الشيعة وهي ليست من مسؤوليتهم. ولم يغب عن بال بري تكرار معزوفة ميقاتي والآخرين: من يتحمل نتائج إقالة سلامة الآن؟ وماذا لو انهارت الأمور دفعة واحدة وقادت إلى الانفجار الكبير؟

في القصر الجمهوري، النقاش مختلف. صحيح أن عون لا يريد فراغاً في منصب الحاكم. لكنه يقدم الأهم على المهم الآن، وهو مستعد لتغطية أي شخص يتولى إدارة المصرف المركزي إذا التزم بموجبات التدقيق الجنائي وعدم عرقلة التحقيقات المحلية أو الخارجية. لكن عون يعرف أن هاتفه سيرنّ، وهذا ما جعله ينتظر البطريرك الماروني الذي لا يتأخر في تقديم الأمر على صورة أن هناك من يريد إطاحة أقوى موقع ماروني في الإدارة العامة، إذ لا يترك البطريرك مناسبة إلا ويثير الأمر من زاوية: هل تقبل يا فخامة الرئيس أن تترك هذا الموقع الحساس للشيعة؟
– لا يحتاج رئيس الجمهورية إلى عون من أحد في هذه اللحظة. سارع إلى مباغتة البطريرك الماروني: سيدنا، هل تعرف ماذا قال لي السيد حسن (نصرالله) حول هذا الأمر؟ صمت الراعي منتظراً الجواب، فأضاف عون: نحن لا نقبل إطاحة ماروني ليشغل شيعي منصبه. لذلك، اعقدوا جلسة للحكومة، وعيّنوا البديل ثم أخرجوا سلامة. أُسقط في يد الراعي الذي ذهب ليبحث عن وسائل حماية جديدة للحاكم، علماً أن على البطريرك الاستعداد للإجابة عن أسئلة حول حقيقة تحويل حسابات تخصّ الكنيسة من الليرة إلى الدولار وحتى خروج بعض الحسابات إلى الخارج. قد يخرج من يقول إن هذا الكلام هو جزء من حملة، لكن لماذا يحرم علينا السؤال: لماذا لا ترفع الكنيسة السرية عن حساباتها المصرفية وتظهر لرعاياها وبقية اللبنانيين حقيقة ما تملك وكيف تصرف وأين؟
ثمّة وقائع كثيرة تُدمي القلب حول ما يجري بشأن مصير حاكم مصرف لبنان ومصير الودائع وواقع القطاع المصرفي والأموال المهرّبة أو المنهوبة أو خلافها. لكن، حتى لا يقع الناس ضحية استغلال سياسي جديد، يجب لفت الانتباه إلى أن الفساد الذي يلفّ لبنان كله، لا يمنع الحكومة، من أن تتحمّل المسؤولية لنصف ساعة فقط، وأن تجد من يخلف سلامة، ويفتح الباب أمام أكبر عملية تنظيف يحتاج إليها لبنان قبل الشروع في أيّ عملية بناء جديدة!

زر الذهاب إلى الأعلى