الجمهورية- جوني منير
فجأة ارتفع منسوب الحماوة حول الاستحقاق الرئاسي بعدما قرر رئيس المجلس النيابي نبيه بري الاعلان رسمياً عن دعم الثنائي الشيعي لسليمان فرنجية رئاسياً ووضع حواجز وموانع دستورية أمام قائد الجيش العماد جوزف عون. صحيح انّ لِما استجَد اسبابه الداخلية، لكن ثمة اسباباً اقليمية اساسية وراء «الهجوم» السياسي للرئيس بري، لا سيما انه يتضمن تنسيقاً وتفاهماً كاملين مع «حزب الله». واذا كانت الاسباب الداخلية معروفة، فإن المهمة الاساس تبقى في البحث عن الدوافع الاقليمية وهي الاهم من دون شك.
خلال الاسابيع الماضية تزاحمت الاحداث في المنطقة وظهرت انعطافات مهمة، إن في اليمن او في سوريا وحتى في العراق، لكن الاشارات الايجابية بدت يتيمة وضعيفة بموازاة رسائل سلبية ورفع السقف. فإيران حققت مستوى تخصيب بلغ 84% وهي أضحت قريبة جدا وعلى بعد ايام من تخطّي نسبة 90%. وعندها، ستكون قد وصلت الى نقطة اللاعودة. وهذا ما أشعل الموقف الاسرائيلي الذي يعيش اصلاً أزمات تطال عمق الكيان للمرة الاولى منذ نشوئه.
اذاً، أوحَت ايران انها ذاهبة الى النهاية في ملفها النووي، في وقت ضاعفت من مستوى شراكتها العسكرية المستجدة مع روسيا، وسَعت لترسيخ علاقات تصاعدية مع الصين. وسادت قناعة في واشنطن بأنّ هدف ايران من خطواتها التصعيدية هذه، الضغط عليها لانتزاع تنازلات سياسية اكثر منه الشروع فعلياً في عملية انتاج سلاح نووي. لكنّ الركون لهذه التقديرات من دون وضع الخيار العسكري على الطاولة في المقابل سيُعتبر استهتاراً ومجازفة برأي المسؤولين الاميركيين.
أضف الى ذلك انّ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو المأزوم جداً داخلياً، قد يسعى لتصدير أزمته باتجاه ايران وهو ما يلقى تأييدا اسرائيلياً داخلياً، وهذا ما تخشاه ادارة بايدن. كذلك تُبدي اسرائيل قلقها من تسوية سياسية في اليمن بدأت ملامحها، لا تلحظ منع الصواريخ البالستية التي تملكها ايران والقادرة على ان تطال جنوب اسرائيل انطلاقاً من اليمن. لكنّ اسرائيل تدرك جيداً بأنّ الدفع باتجاه عملية عسكرية عنوانها «النووي الايراني»، وبالتالي أخذ المنطقة باتجاه التأزيم بحاجة لضوء اخضر اميركي ومساعدة عسكرية ما يزالان غير متوفرين. وقد لا يكون من المبالغة الاعتقاد بأنّ ادارة بايدن ليست منزعجة من الازمة المستعصية التي تخنق الحكومة الاسرائيلية. وفي مطلق الاحوال فإنّ واشنطن رغم ترجيحها بأن رفع السقف الحاصل من قبل ايران هدفه تفاوضي لا عسكري، فإنها سعت لوضع خياراتها العسكرية على الطاولة. وفي وقت استمرت فيه البحرية الاميركية بالتعاون مع الفرنسيين البريطانيين بتشديد الرقابة على سواحل اليمن وضبط شحنة سابعة من السلاح في خلال ثلاثة اشهر، أعلنت عن زيارة رئيس اركان الجيوش الاميركية الجنرال مارك ميلي الى اسرائيل ومن ثم شمال سوريا، في زيارة هي الثانية منذ الصيف الماضي مع الاشارة الى انّ زيارات رئيس الاركان الاميركي الى المنطقة لا تكون متلاحقة في العادة.
وجرى إلحاق زيارة الجنرال ميلي بزيارة مفاجئة لوزير الدفاع لويد اوستن الى ثلاثة بلدان هي: الاردن ومصر واسرائيل. مع الاشارة الى ان اسرائيل تكون قد استقبلت مع زيارة اوستن 4 زيارات لكبار المسؤولين الاميركيين منذ وصول الائتلاف اليميني المتطرف الى السلطة منذ حوالى الشهرين.
وواشنطن التي تجهد للاثبات بأن الشرق الاوسط لا يشبه افغانستان بشيء، إثر الانسحاب المُذلّ من هناك، سرّبت بأنها وضعت خلال الاشهر الماضية احتمالات عسكرية عدة، منها استخدام صواريخ محمولة على السفن الحربية، وهو ما حاولت اظهاره من خلال المناورات المشتركة التي أجرتها مع سلاح البحرية الاسرائيلي منذ حوالى الشهر. وتأتي زيارة اوستن الثانية الى المنطقة كوزير للدفاع لتحمل رسائل عدة، منها التلويح لإيران بالخيار العسكري ولو انّ الاولوية تبقى للخيار الديبلوماسي، اضافة الى رسائل اخرى لا تقل اهمية وتتعلق بالوضع الامني بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية وهي موجّهة لحكومة نتنياهو. اضافة الى رسالة ثالثة تعبّر عن قلقها من رفع مستوى التعاون العسكري بين ايران وروسيا، والذي يطال مسار الحرب الدائرة في اوكرانيا.
كذلك ثمة رسالة رابعة تطال نفوذ ايران من خلال القوى المرتبطة بها على ساحات الشرق الاوسط مثل اليمن وسوريا ولبنان. واذا كان اليمن يخضع لمفاوضات قد تُثمر اتفاقاً سياسياً خلال الاسابيع المقبلة، الا انّ الوضع في سوريا ولبنان ما يزال غير واضح بالنسبة لواشنطن، وهو ما فسّر تصعيد الثنائي الشيعي الرئاسي في لبنان.
وهذا التصعيد المتبادل بين طهران وواشنطن في المنطقة بَدا انه محكوم بسقف التفاوض لا المواجهة، لذلك مثلاً خرج المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافايل غروس من زيارته لإيران متفائلاً بعدما قدّمت له السلطات الايرانية ما اعتبره ضمانات قوية للمشاركة قريباً في النقاشات التقنية، وان محادثاته كانت بنّاءة جداً، وهذا ما عزّز رأي القائلين إنّ طهران كانت تبحث عن لفت انتباه واشنطن لا الانزلاق باتجاه المواجهة. ولذلك عمدت واشنطن الى جانب قيامها بعرضها العسكري الى التأكيد بأنها لم تقفل بعد باب الديبلوماسية لمعالجة ملف النووي، وبأنها ترفض تماماً الخيار العسكري مع ايران أقلّه في المرحلة الحالية، ما يوحي بوجود حركة ما في كواليس المفاوضات.
وفي سوريا وبعد ارتفاع منسوب الانفتاح العربي عليها، عادت الحركة لتشهد تباطؤاً. فبعد زيارات وزير الخارجية الاردني ومن ثم وفد برلماني لثماني دول عربية، فرئيس الوزراء المصري وتَصاعد الحديث عن فتح ابواب السعودية امام العلاقة مع دمشق، ظهر بوضوح امام الرئيس الاسد ولا سيما بعد زيارته الى سلطنة عمان، وجود مشروع سياسي كأساس لاستعادة العلاقات الطبيعية وفتح ابواب الاستثمارات، ويقوم على تسوية سياسية مُستوحاة من تسوية الطائف في لبنان، واتخاذ إجراءات في اطار الابتعاد خطوات عن ايران. وبالتالي، انهاء وظيفة اعتماد سوريا كممر آمن لإيران باتجاه لبنان.
وفي المقابل، فإنّ الاسد الذي يعتبر ان الدول العربية ارادت التخلص منه في حين ان ايران أنقذته، يحاول الجَمع بين الحماية الايرانية له وإنقاذ الوضع المعيشي في سوريا الذي يُقارب المجاعة في بعض المناطق من خلال المساعدة المالية والاقتصادية من دول الخليج.
وفي هذا الاطار إنّ زيارة الجنرال الاميركي مارك ميلي، التي جرى وضعها في اطار محاربة داعش، يمكن تفسيرها ايضاً في اطار تهديد التواصل البري الذي تؤمنه سوريا بين ايران والشاطئ اللبناني.
تبقى الاشارة الى ان زيارة وزير الدفاع الاميركي بعد حوالى الشهر فقط على زيارة وزير الخارجية الاميركي تؤشّر الى فشل انطوني بلينكن في تأمين النتيجة المطلوبة، وبَدا من خلال تجارب السنتين الماضيتين ان وزارة الدفاع كانت أنجح من وزارة الخارجية في مقاربة ملفات المنطقة المعقدة. وهذا ما حصل مع السعودية وايضا مع مصر والاردن واسرائيل. وهو ما يعني ايضا انّ واشنطن تحمل مشروعاً سياسياً – عسكرياً في الشرق الاوسط، وليس ديبلوماسياً فقط كما كان يحدث سابقاً. وبالطبع لبنان ليس بمنأى، حيث الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
من هذه الزاوية فسّر البعض تصعيد «حزب الله» السياسي من خلال الرئيس نبيه بري والرسائل التي حملها. وقبل موقف رئيس المجلس النيابي، كان امين عام «حزب الله» قد رفع سقف خطابه ملوّحاً بالحرب، لكن «الاختبار» الاسرائيلي الذي حصل بعد يومين من خلال إطلاق قذيفة على بيت مهجور والصمت اللبناني الذي تبع ذلك، اكد بأن ما يحصل هو تصعيد «تفاوضي» لا حربي.
وخلال الايام الماضية أثار العديد من مسؤولي «حزب الله» حال التدهور المعيشي، واعتبروه في اطار الحرب على «حزب الله». وهو ما جرى تفسيره بأنّ الحزب لا يريد ان يخسر من اوراقه التفاوضية بسبب عامل الوقت الذي يلعب ضده. وهو على غرار الاسلوب الذي تعتمده ايران، يُصعّد ليفاوض وهو المدرك ان المخارج الداخلية للاستحقاق الرئاسي مقفلة بالكامل، وان واشنطن تريد اعادة تشكيل المنطقة بعد إخضاع «حزب الله» لـ»ريجيم» مدروس. وهذا سيشمل بالطبع التفاهمات المنتظرة بينه وبين واشنطن حيال نفوذ ايران في المنطقة وداخل السلطة في لبنان.
وخلال احد اجتماعات تكتل لبنان القوي، قال النائب جبران باسيل ردا على دعوة احد النواب للدخول في تسوية حول رئاسة الجمهورية: هل تعتقدون بأنه من السهولة الانتقال من الاقامة في فندق 5 نجوم الى فندق بنجمة واحدة؟
قد يكون هذا التفسير هو الأوضح والاكثر صحة حيال السلبية التي يُبديها باسيل. لكن من الحكمة القول انه بات على الجميع التفكير في كيفية الانتقال الى فنادق اخرى ولو بدرجات متفاوتة، والّا فإنّ فندق الخمس نجوم على قاب قوسين من الانهيار على رؤوس الجميع.