كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
كثرت السيناريوهات التي تحاكي الرابع والعشرين من تموز قياساً على شكل الأحداث المتوقعة ومضمونها، وما يمكن أن تقود إليه من تغييرات محتملة في قطاع غزة وجنوب لبنان، وما يمكن ان تعكسه على الساحات الملتهبة. فالتاريخ لا يؤرّخ لزيارة رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو لواشنطن فحسب، انما سيشهد أولى جلسة مجلس الأمن لمناقشة التقرير الخاص بالقرار 1701 معطوفاً على طلب لبنان التمديد لقوات «اليونيفيل». وعليه ما هي التوقعات المحتملة؟
سال حبرٌ كثيرٌ على صفحات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، وخصّصت عشرات برامج «التوك شو» السياسية المحلية والاقليمية في قراءتها لما هو متوقع من أحداث تلي يوم الرابع والعشرين من تموز الجاري، منذ اللحظة التي حُدّد فيها هذا الموعد لزيارة نتنياهو للكونغرس الاميركي، حيث سيلقي خطاباً يلبّي من خلاله دعوة، تجاهلت موقف البيت الأبيض منها، ووقّعها جميع زعماء الكونغرس الأربعة: رئيس مجلس النواب مايك جونسون، وزعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ تشارلز شومر، وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، وزعيم الديموقراطيين في مجلس النواب حكيم جيفريز. وهي خطوة أُريد منها سلفاً ان تكون محطة مهمّة على الطريق المؤدية الى الانتخابات الرئاسية الاميركية والتحدّيات التي ترافقها، على رغم من مواقف الأعضاء «التقدميين» الذين رفضوا حضور «مجرم حرب» أمام المجلسين، لمجرد انّه يحول دون دخول المساعدات الى قطاع غزة. وقد تزامن ذلك مع الدعوة التي وجّهها الأمين العام للامم المتحدة إلى عقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة التقرير الذي أعدّه ممثله الدائم في لبنان بشأن القرار 1701، معطوفاً على طلب لبنان التمديد لقوات «اليونيفيل» لولاية جديدة تُحتسب ابتداءً من 30 آب المقبل وتمتد سنة كاملة.
كان كافياً ان يستدرج الموعدان اهتماماً خاصاً بهذا التاريخ، خصوصاً انّ زيارة نتنياهو أحيت في أذهان الأميركيين زيارتيه السابقتين لهذين المجلسين عام 2015، وألقى خلالهما ما عُرف بـ «الخطاب المثير للجدل» مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. ويومها قاطع هذا الخطاب العشرات من أعضاء الكونغرس، بمن فيهم النائب آنذاك جو بايدن، الذي يشغل الآن منصب الرئيس، ولذلك تعددت السيناريوهات المتداولة في الأروقة السياسية والديبلوماسية التي تحدثت عن أحداث متسارعة يمكن ان تقود المنطقة الى حال من الفلتان غير المسبوق، إن ثبت عجز المجتمع الدولي عن لجم أحداثها العسكرية. وذلك قياساً على ما هو منتظر من تطورات خطيرة إن بقيت الساحة خالية للعقول العسكرية المتمرّدة على كل الوساطات الدولية والاقليمية والأممية. فالأوضاع المستجدة في غزة وجنوب لبنان زادت من مخاطر الإنزلاق إلى حرب كبرى في لحظة ما بعد انهيار مساعي التهدئة. وهو أمر لم يعد مستغرباً. فقد تجاوزت اسرائيل حتى اليوم ما قالت به القرارات الدولية، ولا سيما منها تلك التي صدرت عن مجلس الأمن لوقف النار في غزة، او تلك التي صدرت عن محكمتي «الجنائية الدولية» و»العدل الدولية» لوقف العمليات العسكرية في رفح، وتجنّب ارتكاب المزيد من المجازر الدموية بحق الإنسانية، لم تغيّر في خططها التدميرية ولم توقف هذا المسلسل في حق الحجر والبشر وكل ما هو فوق الأرض في قطاع غزة.
ولذلك كله، لم تستغرب الأندية الديبلوماسية والسياسية ما انتهت إليه الوساطات وما رافقها من مناقشات لسلاسل من الأفكار التي انهارت واحدة بعد اخرى. وخصوصاً انّها هدفت الى وقف الحرب والإسراع في الحلول السياسية والإنسانية المطروحة بدءاً بعملية تبادل الأسرى الاسرائيليين بالمعتقلين والموقوفين الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية، وصولاً إلى إدخال المساعدات على أنواعها وحجم الانسحاب الاسرائيلي من المنطقة وترتيبات «اليوم التالي» سياسياً وإداريا وأمنياً، والتي لم يتمّ التوصل إلى اي مما هو ضروري منها لرسم صورة عن مستقبل المنطقة بعد الحرب، وشكل ومستوى علاقاتها بمحيطها. ولذلك بقيت الأمور تتفاعل في اتجاه ما هو أخطر وما لا يريده احد من الوسطاء، بطريقة لا توحي سوى انّها رغبة اسرائيلية قادت الى فشل المفاوضات في ظل استمرار كل ما يهدّد الأمن والسلم الدوليين.
وعليه، ارتفعت المخاوف من ان ينجح نتنياهو في قيادة المنطقة إلى «ميني حرب» اقتربت من ان تكون «عالمية ثالثة»، إن قيست بما انخرطت فيها من قوى ودول وما خُصّصت لها من الترسانة الحربية التي لم تستهلكها اي حرب في اقل من 10 اشهر، عدا عن حجم الخسائر البشرية التي فاقت اي تصور. ولا يتجاهل المتابعون اليوم إمكان ان تتجدّد الهجمات الإيرانية مرّة اخرى على إسرائيل إن توسعت الحرب في اتجاه لبنان. وكل ذلك يجري وسط اعتقاد بأنّه سيكون من المنطقي انتظار ما لم تشهده المنطقة وساحاتها الملتهبة منذ عملية «طوفان الأقصى» في قطاع غزة وغلافها، كما بالنسبة إلى حرب «الإلهاء والإسناد»، والتطورات التي تلتهما، وخصوصاً عندما توسعت ساحاتها لتشمل مناطق بعيدة من مسرح العمليات العسكرية امتداداً إلى الساحتين العراقية والسورية فاليمنية ومضيقي باب المندب وهرمز المؤديين إلى البحر الأحمر وبحر العرب، والتهديدات بتمدّدها المحتمل إلى البحر الابيض المتوسط إن تمّ ضمّه الى الأمن القومي الإيراني بعدما حدّد مداه الحرس الثوري الإيراني بنحو 5 آلاف كيلومتر بعيداً من نطاقه الجغرافي.
وانطلاقاً مما تقدّم، يكتسب الرابع والعشرون من تموز الجاري أهمية خاصة، عززت منها المخاوف مما يُدبّر لزيارة نتنياهو لتكون «محطة جمهورية» في مواجهة الرئيس الديموقراطي، وخصوصاً إن لم يحصل اي لقاء بين نتنياهو وبايدن، وما يمكن ان يتسبّب به خطابه أمام الكونغرس من تغييرات على مستوى «الصوت اليهودي» للتخلّي عنه لمصلحة منافسه الجمهوري دونالد ترامب، الذي أمدته محاولة الإغتيال بدعم لم يكن متوقعاً للحظة.
أما في ما يتعلق بمصير القرار 1701 والتمديد لقوات «اليونيفيل» فهي امور لا تعني حتى اللحظة سوى اللبنانيين. ذلك انّه إن لم تنته أحداث غزة لن يكون هناك ملف اسمه لبنان مطروحاً للبحث. فالتمديد لـ»اليونيفيل» حتى اليوم لن يخرج عن الصيغة التقليدية السنوية، ما لم يطرأ اي جديد في الجنوب. ومتى انطلقت المفاوضات مجدداً، قد يُعاد النظر في القرار 1701 ومقتضياته بما يتناسب والواقع الناشئ بعد الحرب «فلليوم التالي» في الجنوب مقومات لم تنضج بعد ولا تستأهل اي نقاش قبل البتّ بترتيبات غزة، وعندها سيكون لكل مقام مقال.
وبناءً على كل ما تقدّم، يفترض بالمراقبين تقييم ما شهدته جلسات المناقشة في الأمم المتحدة للوضع في الشرق الأوسط أول من امس، وما حالت دونه مواقف واشنطن بعدم صدور اي بيان عن مجلس الامن يدعو الى ضبط النفس وعدم التصعيد عند «الخط الأزرق» واحترام القرار 1701 والتشديد على دور «اليونيفيل». لتبقى العين مفتوحة على زيارة نتنياهو وما يمكن ان ترافقها وتليها من تطورات تعطي مؤشرات أكثر وضوحاً عن الوضع في غزة، وما يمكن ان تقدّمه نسب الإحصاءات واستطلاعات الرأي في الولايات المتحدة التي ستدخل قريباً مدار أقسى مواجهة انتخابية رئاسية لاختيار «السيّد» الذي سيدخل الى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني العام المقبل، لولاية رئاسية تمتد لأربع سنوات، والتي لربما سيُبنى عليها مستقبل المنطقة والعالم ومصيرهما.