كتب حسن حردان في “البناء”:
ليس بالأمر الطبيعي إقدام جنرالات صهاينة، وقبلهم قيادة الجيش والمتحدث العسكري على توجيه الانتقادات العلنية لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بسبب إصراره على مواصلة الحرب في قطاع غزة، لأجل تحقيق أهداف استراتيجية من المستحيل إنجازها، مثل النصر المطلق الذي تحوّل إلى مثار للسخرية، لا سيما أن هذا الهدف يصعب تحقيقه لأنه يتطلب القضاء على وجود حركة حماس، ليس العسكري وحسب، بل والسياسي، وهو ما دفع المتحدث العسكري إلى القول في حوار نادر الحدوث مع قناة 13 الاسرائيلية، انّ «الحديث عن القضاء على حماس ذرّ للرماد في عيون الشارع الإسرائيلي، وطالما انّ المستوى السياسي لا يطرح بديلاً لحماس فإنّ حماس باقية لأنها فكرة مغروسة بين الناس ومن يظن انه من الممكن أن تختفي فهو مخطئ».
فيما أعلن وزير الدفاع يوآف غالانت في مؤتمر صحافي معارضته توجهات نتنياهو بشأن قطاع غزة بعد الحرب قائلا، إنه سيعارض اي «حكم عسكري اسرائيلي للقطاع لأنه سيكون دمويا ومكلفا وسيستمر أعواماً».
ما دفع نتنياهو إلى الردّ على هذه الانتقادات بالقول: «انّ إسرائيل دولة لها جيش وليست جيشاً له دولة».
لكن ذلك لم يؤدّ إلى لجم قيادات الجيش عن مواصلة إطلاق التصريحات التي تتعارض مع سياسة نتنياهو، وتحميله المسؤولية عما يتعرّض له الجيش من غرق في حرب استنزاف كبدّته خسائر كبيرة وولدت في صفوفه عوارض شبيهة بعوارض عقد فيتنام، استنزفت قواه وأنهكت ضباطه وجنوده الذين يقاتلون في غزة منذ تسعة أشهر وباتوا يحتاجون إلى الراحة وإعادة تأهيل، فيما الجيش أصبح يعاني من نقص في عديده، مما دفع إلى طرح تجنيد الحريديم الذين يرفضون الخدمة العسكرية، بزعم تفرّغهم لقراءة التوراة، ويهدّدون بالرحيل عن الكيان اذا اجبروا على الخدمة..
هذا الواقع يؤشر إلى عمق الخلافات والدرجة التي بات فيها الجيش غير قادر على تحمّل البقاء في غزة عرضة لهجمات وكمائن المقاومة، لأجل تحقيق مصلحة نتنياهو الشخصية بمواصلة الحرب لضمان بقائه في السلطة وتجنب مواجهة المحاسبة عن الفشل في 7 اكتوبر والهزيمة في غزة بالإضافة إلى تهم الفساد الموجهة اليه…
وكان الأبرز في هذا السياق ما أعلنه كبار جنرالات الجيش في حديث لصحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، من انهم يريدون «بدء وقف إطلاق النار في قطاع غزة حتى ولو أدى ذلك إلى ابقاء حركة حماس في السلطة حاليا».. وتأكيدهم «ان الهدنة ستكون أفضل طريقة لاستعادة 120 اسرائيليا»، ونقلت الصحيفة عن الجنرالات قولهم إنهم «يخشون حرباً طويلة تتآكل فيها طاقات وذخائر الجيش».. ولا سيما أنّ قادة المؤسسة الأمنية أكدوا انّ القتال مع حماس سيستغرق سنوات مما يؤدّي إلى خسارة المحتجزين في غزة..
هذا التطور في الصراع بين نتنياهو والجيش غير معهود في تاريخ الكيان، ويحصل لأول مرة، مما يعكس أزمة عميقة غير مسبوقة مفتوحة على احتمالات عدة طالما انّ نتنياهو يتصرف باعتباره دكتاتوراً يرفض ان يناقشه أحد بخياراته وقراراته ويمنع وزير حربه من عقد ايّ اجتماع مع قادة الأجهزة الأمنية، ويحصر علاقتهم به شخصيا..
لماذا الأزمة عميقة وغير مسبوقة؟
اولا، لم يسبق لجيش الاحتلال ان خاض حرباً استمرت كل هذه المدة الطويلة، خصوصا أنّ استراتيجيته قامت على شن الحروب الخاطفة والسريعة التي يحقق فيها أهدافه.. أما الحرب الحالية على قطاع غزة التي اعتقد انها لن تطول لأكثر من اسبوعين او ثلاثة، تقترب من اختتام شهرها التاسع من دون تحقيق أي من أهدافها، بل ان قيادة الجيش أشهرت علناً استحالة تحقيق هذه الأهداف التي وضعتها الحكومة ومجلس الحرب، وهي القضاء على المقاومة وإنهاء سلطة حماس واستعادة الأسرى من دون شروط وفرض حكم تابع للاحتلال في القطاع…
ثانياً، لم يعتدْ جيش الاحتلال على التورّط بحرب استنزاف يتكبّد فيها يومياً خسائر فادحة بالأرواح والعتاد.. مما أدى الى إضعاف معنويات الضباط والجنود وافتقادهم الإيمان بالقدرة على تحقيق الأهداف والنصر في الميدان.. وهذا الأمر ليس له علاقة بقدرات الجيش الذي يملك أحدث ما في الترسانة الأميركية من أسلحة فتاكة ومدمرة، وإنما بات مرتبطا بالوعي حسب توصيف مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي الذي أقر في آخر مؤتمر له عقده قبل 7 اكتوبر بعجز القوة الإسرائيلية عن شن الحرب وعدم استعداد الجمهور الإسرائيلي دفع ثمن الحرب، وتأكيده ان الجيش الإسرائيلي في «حالة خطرة ولديه مشكلة في الوعي».. هذه الخلاصة التي توصل إليها المؤتمر تتأكد اليوم في غزة حيث يزداد الاقتناع في أوساط الجيش بعدم القدرة على تحقيق النصر وعدم استعداد الجيش مواصلة تحمّل حرب استنزاف عالية الكلفة، وهو ما بات يجاهر به جنرالات الجيش لوقف هذه الحرب التي أصبح الاستمرار فيها يهدّد بتدمير الجيش ويقوده إلى أزمة غير مسبوقة.. ولهذا بدأت قيادة الجيش تمارس ضغطاً متصاعداً على نتنياهو لإخراج الجيش من مستنقع غزة، وذلك من خلال مصارحة الإسرائيليين بأنّ جيشهم لم يعد قادراً على تحمّل النزف في غزة، وانّ نتنياهو هو من يقف وراء مواصلة هذه الحرب من دون جدوى ولأغراضه الشخصية، وان الحلّ إنما يكمن بإجبار نتنياهو على وقف الحرب وقبول مطالب حماس لاستعادة الأسرى الصهاينة.. وان جيشهم الذي يشكل اساس وجود الكيان وبقائه مهدد بالخطر.. وذلك في سياق الرد على نتنياهو، والقول له ولو بطريقة غير مباشرة، ان الجيش هو ضمانة بقاء دولة الكيان واستقراره، إذا انهار أمام ضربات المقاومة الموجعة والمميتة له فإن الصهاينة لن يتمسكوا بالبقاء في الكيان وسوف يتسابقون على العودة إلى أوطانهم الأساسية التي جاؤوا منها طمعاً بالمن والسلوى وحياة الرفاهية والاستقرار التي أغرتهم بها الوكالة اليهودية ودفعتهم للهجرة إلى فلسطين المحتلة.. وعندها لا يبقى هناك من يخدم في الجيش للدفاع عن بقاء الكيان…
من هنا فإنّ الأزمة بين الجيش ونتنياهو التي تأخذ هذا الطابع الحدي، مفتوحة على احتمالات عديدة:
الاحتمال الأول، رضوخ نتنياهو لضغط الجيش واستجابته لطلباته بوقف الحرب التي أرهقته.. والتسليم بعدم إمكانية تحقيق الأهداف، وقبول الصفقة مع حماس لتبادل الأسرى.. لكن هذا الاحتمال لا يزال يصطدم برفض نتنياهو، وكذلك الأحزاب المتطرفة في حكومته الذين لهم أيضاً مصلحة باستمرار الحرب للبقاء في السلطة.. ويراهنون على فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية للحصول منه على دعم كامل لمواصلة الحرب…
الاحتمال الثاني، أن تلجأ قيادة الجيش بالتحالف مع المعارضة السياسية والحراك الشعبي في الشارع إلى تشديد الضغط على نتنياهو لإجباره على الرضوخ لطلباتهم، مما يضيق الخناق على نتنياهو ويدفعه مكرهاً لقبول الصفقة، واتجاه الوضع بعدها إلى إجراء انتخابات إسرائيلية مبكرة، يتقرّر على ضوء نتائجها مستقبل نتنياهو.
الاحتمال الثالث، إن يؤدي استمرار الأزمة بسبب تعنّت نتنياهو، الى قيام قيادة الجيش، بدعم من المعارضة وأغلبية الإسرائيليين وتحت ضغط الضباط والجنود، بالإطاحة بنتنياهو.. وهذا الاحتمال يتعزز بعد مهاجمة نتنياهو لوزير الحرب غالانت خلال اجتماع الحكومة واتهامه بالعمل على الإطالة بالحكومة بالاتفاق مع المعارضة، ولهذا هذا الاحتمال ليس مستبعداً إذا ما واصل نتنياهو وضع العصي بالدواليب لمنع وقف الحرب في إطار صفقة لتبادل الأسرى.. مستنداً إلى دعم الأحزاب المتطرفة في حكومته.. ففي حالة الاستعصاء وتفاقم أزمة الجيش نتيجة استمرار الحرب حتى ولو بوتيرة منخفضة اذا جرى تنفيذ ما يسمّى المرحلة الثالثة، وإصرار نتنياهو على الضرب بعرض الحائط مطالب الغالبية من الاسرائيليين، فإنّ كلّ الاحتمالات تصبح واردة حتى ولو كانت غير مسبوقة بالنسبة للكيان، لأنّ الأزمة أيضاً غير مسبوقة، والكيان في طريق مسدود، والجيش أرهق وغير قادر على تحقيق النصر في غزة، ولا على الذهاب إلى حرب واسعة مع لبنان، ولا على إعادة المستوطنين النازحين إلى مستوطناتهم في الشمال والجنوب.. والجيش قد أصبح عالقاً في حرب استنزاف في غزة، وعلى الجبهة مع لبنان، أدّت وتؤدّي إلى جعل الكيان كله يعاني من الأعباء الاقتصادية المتزايدة، والتي يفاقم منها الحصار الذي تفرضه القوات المسلحة اليمنية على السفن الذاهبة إلى موانئ فلسطين المحتلة، في البحرين الأحمر والعربي…