كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:
كل الحسابات التي سبقت انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية صارت من الماضي. تنفيذ الاتفاقات التي أبرمت بين الرجل ومن صوّت له الخميس، رهن طبيعة موازين القوى التي ستقوم في البلاد قريباً، ما يجعل استحقاق تشكيل حكومة جديدة الاختبار الجدّي الأول، لمعرفة طريقة تفكير الرئيس عون نفسه وطريقة عمله، ومن خلفه القوى الخارجية التي أمّنت وصوله الى قصر بعبدا.
في خطاب القسَم، تجنّب الرئيس الجديد، عمداً أو سهواً، ذكر كلمة «الطائف». تحدث عن احترام وثيقة الوفاق الوطني. لكن في بلد كلبنان، تصبح الإشارة المباشرة من عدمها محل تأويل، وما يزيد من الشكوك هو النقاش الذي قام قبل شهور طويلة حول أيّ تفسير جديد سيعتمد لاتفاق الطائف في نسخة ما بعد الاستيلاء الأميركي على السلطة في لبنان.
والسؤال يصبح أكثر إشكالياً بعدما قامت السعودية بدور مركزيّ في إيصال العماد عون الى موقع الرئاسة، وهي معنية اليوم بما هو أكثر. إذ تكشف المعلومات أنه بعد التغيير حصل في سوريا، واقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في لبنان، عادت الرياض لتسأل منظمات دولية عن الوضع الاقتصادي في لبنان. وعندما نتحدث عن الاهتمام السعودي، فليس المقصود سوى أنها تريد أن تعود للإنفاق في لبنان، بمعزل عمّا إذا كان ذلك عبر «استراتيجية الترفيه» التي يديرها تركي آل الشيخ، أو عبر برامج اقتصادية تمرّ بمؤسسات دولية مثل صندوق النقد أو البنك الدوليين، أو حتى عبر صناديق تنموية عربية، علماً أن في لبنان من ينتظر دعماً سعودياً مباشراً في معالجة مشاكل قطاعَي الكهرباء والبنى التحتية.
والسؤال عن الدور السعودي يعيدنا الى الحديث عن اتفاق الطائف. فالرياض واجهت بعنف قلّ نظيره محاولة قطر مدّ يدها الى الرئاسة الأولى في لبنان، وهذا يعني أن السعودية لن تسمح للآخرين بمدّ اليد على موقع رئاسة الحكومة. وهو أمر جرى الحديث عنه أصلاً خلال الأسبوعين الماضيين، الى درجة أن بعض النواب السنّة صرّحوا أمس بأنهم ينتظرون الموقف السعودي ليقرروا اسم مرشحهم لرئاسة الحكومة.
في هذا السياق، كان النقاش قائماً حول اهتمام السعودية بالبرنامج السياسي لقائد الجيش، ودعم مشروعه في حال كان يهدف الى احتواء نفوذ إيران وقطر والجماعات المرتبطة بهما، مع إشارة مباشرة الى حزب الله والتيار الوطني الحر وبعض النواب السنّة. ولم نشكّل العلاقة الخاصة التي تربط السعودية مع «القوات اللبنانية» وقائدها سمير جعجع عقبة أمام قرار السعودية بدعم الرئيس عون، وهو ما أثار حفيظة جعجع الذي يبدو أنه فاتته قراءة المتغيّرات التي طرأت على الموقفَين السعودي والأميركي من الملف اللبناني بعد ما حصل في سوريا.
وعندما تولّى الموفد السعودي يزيد بن فرحان قطع الطريق على أيّ نقاش حول اسم بديل من العماد عون، إنما كان يقول بأن بلاده لا تشترط فقط وصول قائد الجيش لتؤدي دوراً داعماً، بل أنها قررت العودة الكاملة الى لبنان، وإن مفتاح العودة يبدأ بانتخاب قائد الجيش. ولذلك، منع بن فرحان أي نقاش جدي مع أنصار المملكة من النواب، وذهب الى ثنائي حزب الله وحركة أمل من خلال سؤال الرئيس نبيه بري عن المطلوب.
في المحاولة الأولى للموفد السعودي مع رئيس المجلس، لم يظهر الأخير اهتماماً بفذلكة السعوديين، وقد صارح الموفد بأنه يعارض انتخاب عون. لكنه لم يتحدث عن جوانب سياسية، بل حرص على إبلاغ الموفد السعودي بأن المشكلة مع قائد الجيش ناجمة أساساً عن طريقة إدارته للعمل. وقال له: أنتم المرجعية الأولى للسنّة في لبنان، وأنتم رعاة اتفاق الطائف الذي عزّز موقع رئيس الحكومة السنّي في لبنان، وأنتم حريصون على عدم حصول أيّ تعديل على اتفاق الطائف في لبنان. ولأنكم كذلك، فمن الواجب سؤالكم عمّا إذا كنتم تعتقدون بأن العماد عون سيحترم نصوص هذا الاتفاق وروحه. وقبل أن يبدي الموفد السعودي استغرابه من هذا الطرح، كان بري يلفت انتباهه الى أن قائد الجيش اصطدم مع أربعة وزراء للدفاع تعاقبوا على المنصب خلال ولايته قائداً للمؤسسة العسكرية، وأن قائد الجيش كان يتجاوز الوزراء ولا يقف عند ما يفرضه الدستور من إجراءات، حيث لوزير الدفاع سلطة وصاية على المؤسسة العسكرية.
لا أحد يعرف كيف فسّر الموفد السعودي الأمر بعد الاجتماع، لكنه عاد في وقت لاحق ليسأل الثنائي الشيعي عن الثمن المطلوب مقابل دعم عون. وكان يحرص على معرفة ما إذا كان الأمر يتجاوز المطالب التقليدية الخاصة بالحكومة والمقاعد. إلا أن المسؤول السعودي لم يتطرّق مع أحد الى موضوع اتفاق الطائف وضرورة احترامه، وهو موقف أثار قلق من يعتقدون بأن قائد الجيش يريد تحقيق نجاحات في برنامجه للحكم، ويتّكل على دعم أميركي – سعودي لا يقف عند حدود تأمين الأصوات له، بل في توفير كل أشكال الدعم الاقتصادي والمالي، الى جانب الدعم السياسي. وربما يكون ملف تشكيل الحكومة في رأس أولويات رئيس الجمهورية الجديد.
حتى اللحظة، لا أحد يعرف كيف سيدير عون موقعه رئيساً لجلسات مجلس الوزراء. ولا أحد يعرف بعد هويّة فريقه المساعد، سياسياً ووزارياً وإدارياً. كما لا يعرف أحد حجم الكتلة النيابية التي ستكون الى جانبه من الآن حتى موعد الانتخابات المقبلة. لكن، هناك من يسأل عمّا إذا كان سيكرر تجربة الرئيس إميل لحود في بداية عهده، عندما شكل فريقاً كان حاضراً في كل ملفات الحكومة وحقائبها. وهي طريقة قادت الى مواجهة بين لحود والرئيس الراحل سليم الحص، قبل أن تتحوّل الى انفجار كبير مع الرئيس الراحل رفيق الحريري.
اليوم، الجميع مستنفر لمراقبة كيفية تصرّف الرئيس عون مع سلطة مجلس الوزراء، لأن بالقرب منه من لديه اعتقاد بأنه لا حاجة الى الدخول في معركة لتعديل الدستور بحثاً عن صلاحيات إضافية، بل يمكن تحقيق ذلك من خلال اعتماد تفسير جديد لاتفاق الطائف، ما يمنح رئيس الجمهورية تأثيراً يتجاوز الحدود الخاصة بصلاحياته، وهذا، إن حصل، سيكون أولاً وأخيراً، على حساب رئاسة مجلس الوزراء. ولذلك، وجب السؤال عمّا تريده السعودية هذه المرة، لا ما تريده الولايات المتحدة فقط.