“الأخبار”: ابراهيم الأمين
قبل اتفاق الطائف وبعده، لا يزال كثيرون في لبنان يتحدثون عن استقلالية القضاء. والمقصود، هنا، أن تكون السلطة القضائية مستقلة تماماً عن السلطات التشريعية والتنفيذية، أي أن تكون قادرة على إصدار الأحكام وفقاً للقوانين، وليس وفقاً لأهواء هذا النافذ أو ذاك، وأن يكون هناك قانون يسمح لهذه السلطة بالعمل من دون الخضوع لتأثيرات خارجة عن معطيات كل قضية مطروحة أمامها بعيداً من تأثير السياسيين أو غيرهم من أصحاب النفوذ.
لفظياً، يبدو الأمر سهلاً لا بل جميلاً أيضاً. ورغم أن النظام في لبنان يتيح مساحة كبيرة جداً من الاستقلالية للقضاء من باب الفصل بين السلطات، إلا أن الناس جميعاً يعرفون أن القضاء ليس سلطة مستقلة. فلا هو من يقرر موازنته أو يجبيها، ولا هو من يصدر مراسيم تعيين المواقع الرئيسية فيه، ولا يملك السلطة الواقعية الكاملة على قوى إنفاذ القانون التي تخضع له بحكم القانون، حتى يتحقق ما يقرره القضاء بمختلف أقسامه.
لكن، لنعد إلى واقع الحال. نحن اليوم أمام صراع لا يتصل فقط بالضغوط السياسية. صحيح أن المرجعيات السياسية هي من اختارت القضاة الأساسيين، لكن إدارة العمل اليومي متروكة بالكامل للقضاة عبر مجلس القضاء الأعلى مما يتيح لهم تنظيم أمور عمل المحاكم بالطريقة التي يجدونها مناسبة.
والمفارقة أنه إلى جانب الانقسام السياسي في السلطة القضائية نفسها وتموضع أطرافها الطوعي لدى أصحاب النفوذ وتبادل المنافع معهم، معنوية كانت أم مادية، هناك أمر أكثر خطورة، وهو قبول القضاة بالحماية، ليس من قوى سياسية وحسب، بل من دول خارجية. وإلا فما معنى أن يحتفل قضاة إذا حذرت دول من التدخل في تحقيق، وأن يخاف قضاة من تهديد بعقوبات خارجية، أو أن ينصاع قضاة لطلبات خارجية وينفذوها فوراً.
أي سبب يدفع القضاة إلى عدم عقد اجتماع مجلس القضاء الأعلى، وأين هي الصفات المفترض أنها تنزّه القضاة وتميزهم عن بقية المواطنين، في حين أن بعضهم لا يجرؤ على استكمال تحقيق، أو على حضور جلسة، أو الغياب عن أخرى. ما الذي يدفع قاضياً سيحال قريباً إلى التقاعد للتصرف بهذا القدر من التزلف والاستسلام لما تريده قوى سياسية موجودة داخل السلطة أو خارجها، وكيف يرتجف قضاة من تظاهرة نظمها بضع عشرات، أو يهاب آخرون اعتصاماً أمام قصر العدل؟
عملياً، ربما هي المرة الأولى التي يمكن للقضاء أن يستفيد من الانقسام السياسي الحاد ومن الفراغ القائم في السلطة الآن. فلا رئيس الجمهورية موجود، ولا الحكومة في حالة اتخاذ قرارات ولا سيما لجهة إقالة أو تعيين قضاة، والمجلس النيابي منشغل بملف الانتخابات الرئاسية، وشرعيته الشعبية لم تمنحه قوة تنفيذية كبيرة. وهي اللحظة المناسبة لكي يتصرف الجسم القضائي من دون أن يأبه بما يريده المتنافسون على المواقع والمناصب والحصص، وأن يظهر للناس أنه على قدر المسؤولية، وأن بإمكانه التصرف بحكمة وفق مقتضيات القوانين لا وفق أهواء القوى السياسية والناس.
لكن ما يحصل هو العكس. فنوع الخلافات القائمة اليوم بين القضاة يدعو إلى القلق، هنا ليس على القضاء فقط، بل على البلاد كلها. ذلك أن القضاة يبدون، كما السياسيين، غير قادرين على العمل من دون وصاية. وإلا ما معنى أنه في يلجأ رئيس حكومة أو وزير عندما يعجز عن إقناع القضاة بأمر إلى السفارة الأميركية أو الفرنسية أو الألمانية لتحصيل الحماية من أجل اتخاذ القرار. وكيف يمكن أن نتحدث عن قضاء يريد الاستقلالية عن السلطات الداخلية، بينما لا يتوقف عن تلبية دعوات أو استضافة السفراء العرب والأجانب الذين يحضرون لإعطاء الأوامر. وكيف يمكن أن نقتنع بأن القضاة هؤلاء يمكن تسليمهم البلاد والعباد، وهم يتهربون من مراجعة ملف بغاية الحساسية ويتعلق بالمال العام وبحاكم مصرف لبنان، ويرفضون الادعاء عليه خشية هذا أو ذاك، فيما يقفون صاغرين أمام شرطي أو قاض أو ديبلوماسي أجنبي، ويشرعون له أبواب قوس أعلى محكمة لبنانية لكي يمارس بعضاً من شوفينيته القضائية الموروثة من زمن الاستعمار ويفتحون له الأدراج، ويسمحون له بالاطلاع على كل ما يريد، ثم يسمحون له بأخذ نسخ من الملفات إن لم يكن أكثر؟
وفي قضية المرفأ. كيف يمكن ان نثق بقضاء يريدنا يتصرف بكيدية وقلة حرفية، ويكون ملف التحقيق والمتضررون من الجريمة ضحايا خلاف بين القضاة أنفسهم، وضحايا خلاف بين أرفع القضاة لا بين أدناهم. وكيف لنا أن نصدق بعد اليوم إن كان هذا القرار أو ذاك قانونياً وموثوقاً؟
عملياً، المؤكد أن القضاء اللبناني يفتح ذراعيه من تلقاء نفسه ليكون أداة بيد السلطات الأخرى، وبيد القوى السياسية والسفارات الأجنبية والأجهزة الأمنية الداخلية والخارجية. بالتالي، يحق لنا أن نخشى على السلطة القضائية من هذا النوع من القضاة، فكيف ونحن نعرف أن إنتاجهم أقل بكثير من إنتاج حاجب في أي إدارة رسمية أخرى. وما الملفات العالقة أمام المحاكم منذ سنوات بحيث أصبح المتقاضي يورث قضيته ليس إلى ابن ابنه، إلا الدليل على الكسل الذي يصيب هذا الجسم المريض أصلاً… وما معنى الحرص على الحق والإنسانية، فيما يقبل القضاة ببقاء مئات المواطنين رهن الاحتجاز أو التوقيف لمدد تزيد عما يسمح به القانون ولا يتوسعون أو يختمون التحقيق في قضاياهم، ولا يبتون بطلبات إخلاء سبيلهم أو تحويلهم إلى المحاكمة فوراً. فمنذ العام 2017 والقضاء معطل بصورة تامة أو شبه تامة، إما بسبب اعتكاف القضاة وإما بسبب اعتكاف المحامين وإما بسبب اعتكاف الكتاب والمباشرين.
وربطاً بما نشهده اليوم من مبارزة في مخالفة القانون، من قبل جميع القضاة، وبما نراه من عجز فعلي لمجلس القضاء الأعلى عن العمل، وإزاء الرغبة الكبيرة لهؤلاء القضاة بالتماثل مع ما يجري في بلاد العالم الأخرى، وخصوصاً أولئك المعجبين بالتجارب الغربية، فإن المطروح اليوم، يستدعي نقاشاً من نوع آخر وتغييراً لقواعد عمل هذا الجسم الهرم، عبر تعديل القوانين الناظمة لهذه السلطة وآليات العمل فيها، من مجلس القضاء الأعلى إلى أدنى موقع أو رتبة إدارية فيه. فمن حق المواطن الوصول إلى العدالة عبر السلطة القضائية، والاستقلالية تشكل إحدى أركان هذا الحق، لكن ليس هي وحدها. إذ يقتضي أن تكون إلى جانبها إدارة سليمة للسلطة القضائية وأجهزة رقابية فاعلة، فلا يتخذ أي قاض من الاستقلالية سبباً للتعسف باستعمال سلطته ألا يعود خاضعاً لأية رقابة قضائية، أو سبباً للكسل فلا يعود خاضعاً لأية رقابة مسلكية.
كل الدول الأوروبية التي تعتمد نظام مجلس القضاء الأعلى، من دون أي استثناء، تعتبر أن المجلس هو الجهاز الذي يدير القضاء نيابة عن المجتمع وليس نيابة عن القضاة أنفسهم. ففي آلية تشكيل المجلس الأعلى للقضاء يتم الانطلاق من قاعدة أساسية تقول إن العدالة حق لكل مواطن، وأن القضاء ليس منفصلاً عن المجتمع، وأن العدالة لا تقوم متى خالفت القواعد العامة للمجتمع، وهذا لا يعني خضوع القضاء للسلطات الأهلية أو النيابية، لكنه يعني أن هذا المجلس، الذي يدير شؤون السلطة القضائية، عليه أن يتصرف من خلال تحقيق عدالة متناسبة مع المجتمع ومفهومة من المجتمع نفسه. لا أن يكون القضاة غرباء عن كل البيئة الاجتماعية للبلاد، يديرون القضاء وفقاً لمصالحهم وعلى راحتهم فلا يبذلون إلا الجهد بحده الأدنى. ولذلك، فإن مجلس القضاء الأعلى في كل الدول الأوروبية التي تعتمد نظام مجلس القضاء لإدارة المحاكم، يتم تشكيله ليس من القضاة فقط. صحيح أن القضاة يختارون من بينهم أعضاء فيه، وصحيح أن هناك أعضاء حكميين فيه، لكن هناك أيضاً أعضاء آخرين تختارهم الحكومة والمجلس النيابي وبعض الجمعيات المهنية، وهؤلاء ليسوا من دون صفة تتصل بالعدالة للمجتمع، فيكون بينهم علماء اجتماع وأكاديميون معنيون بالقانون العام وحقوقيون يعرفون الدفاع عن الحريات العامة والخاصة وإداريون يعرفون أسس الإدارة السليمة لأي مؤسسة لزيادة إنتاجيتها. والكل يكون شريكاً في اتخاذ القرارات، خصوصاً عند مواجهة أزمات كما يحصل اليوم في لبنان، سواء في جريمة المرفأ أو ملف حاكم مصرف لبنان أو غيرهما من الجرائم. وفي هذه الحالة، يمكن الحديث عن قضاء يكون مستقلاً سواء في إصدار الأحكام أم في إدارة المحاكم وتعيين القضاة، ويمكنه حماية استقلاله عن السلطات الأخرى، ويفرض الاستقلال على كل قاض. فالاستقلال ليس امتيازاً للقاضي بل حق للمتقاضي عليه. وطبيعة تشكيل المجلس الأعلى للقضاء يفترض أن تعكس تشكيلة المجتمع. فالقضاة هم الأساس، وهم يختارون من يمثلهم في المجلس، في حين يقتضي اختيار غير القضاة من الحكومة ومن المجلس النيابي على غرار تكوين المجلس الدستوري لإدارة المحاكم بشكل يطمئن المجتمع إلى عدالة السلطة القضائية.
وفي هذه الحالة فقط، يمكن للقضاة أن يختاروا الرئيس الأول من بينهم، وكذلك اختيار النائب العام التمييزي أو المالي أو غيرهما من المناصب الرئيسية، وعندها لا يعود للحكومة أو النافذين من السياسيين حق أو فرصة التدخل. وكذلك يفقد القضاة السلطة المطلقة غير القابلة للمراجعة أو النقاش، عندما يتواجد معهم علماء اجتماع أو مفكرون أو أكاديميون أو حقوقيون، يعرفون كيفية تصويب الأمر لتبقى العدالة متناسبة ومفهومة من المجتمع العام، فيضعون مدونة سلوك للقضاة تبين لهم وللمتقاضين الصورة التي يريد أن يراها المواطن في القاضي، فيصبح الجميع على بينة بصورة واضحة بما هو مسموح للقضاة أو ما هو غير مسموح لهم، بما يمكن أن يشكل فساداً أو صرف نفوذ أو محاباة.
وعندها أيضاً يمكن التخلص من المرض الطائفي أو المذهبي الموجود في آلية تعيين المراكز القضائية، بتثبيت مبدأ المداورة على المناصب الرئيسية في السلطة القضائية وتحديد حد أقصى لها فلا يعود بالإمكان إنشاء مراكز قوة في القضاء أو خارجه أو نسخ علاقات مع السياسيين أو النافذين وتبادل الخدمات معهم.
ومن أجل مساءلة القاضي يقتضي إبعاد القاضي المعني بالتفتيش القضائي عن هذا المجلس، حتى تصبح استقلاليته فعلاً لا قولاً فقط، فيتوسع هامشه الرقابي على كل الجسم القضائي بما في ذلك مجلس القضاء الأعلى، وعندها يكون للتفتيش القضائي سلطته المستقلة داخل السلطة القضائية بما يمنع المحاباة والمخالفات على أنواعها. وفوق كل ذلك، تكون هذه السلطة خاضعة للرقابة التي تجعل الإنتاجية حقيقية وليست مزاجية كما هي الحال اليوم. وتزيد من الشفافية بحيث يصبح بالإمكان معرفة كيف تعمل السلطة القضائية وكيف تدار وكيف تتخذ القرارات الإدارية فيها، ولا سيما التشكيلات القضائية.
القضاة مسؤولون عن ارتهانهم للآخر وتعديل هيكلية مجلس القضاء يسمح بعدالة تتناسب مع المجتمع
في حالتنا الراهنة، القضاء ليس مستقلاً. هذا أمر صحيح. لكن في حالتنا الراهنة، حيث ينام رئيس مجلس القضاء ويفيق وهو يفكر في كيف يكون رئيساً للجمهورية، وحيث ينام النائب العام الأول ويفيق وهو يفكر في كيف يكون رئيساً للحكومة، وحيث النائب العام المالي ينام ويفيق وهو يفكر في كيف يكون رئيساً للمجلس النيابي، وقس على ذلك بقية القضاة من بقية المذاهب، ولا سيما بعد بروز موضة الوزراء القضاة. وكل هؤلاء، ينصتون جيداً إما لنظرات الزعيم، أو لهمس السفارات، ولا يخافون من حساب أو عقاب، فعندها لا يمكننا أن ندافع عن استقلالية هذا القضاء، لا بل نكون في هذه الحالة بحاجة إلى آلية للرقابة على هذا النوع من القضاة.
يكفي أن يكون نصف الشعب مشككاً بقاض حتى لا يبقى في مكانه، فكيف الحال إذا قرر هذا القاضي اتهاماً من دون أدلة كافية، وحينها يدفع الناس الثمن قبل أن تظهر الحقيقة بعد سنوات على صورة أخرى… أليس هذا ما حصل مع ملف اغتيال رفيق الحريري منذ اليوم الأول لوصول المحققين الأجانب حتى لحظة النطق بالحكم غير القابل للتنفيذ؟