تعقيبًا على مقال الزميل المحترم قاسم قصير: « نحو مشروع عربي جديد لمواجهة المشروع الصهيوني الأميركي»
لا شكّ ولا اختلاف ولا نقاش أنّ المشروع الصهيوني يمثّل الخطر الأكبر الذي يتهدّد العرب والمسلمين ومن ورائهم الانسانيّة جمعاء، لسببين إثنين:
أوّلا: أنّ المشروع يمثّل استمرارًا ومواصلة للمشروع الاستعماري في نسخته الاستيطانيّة، أو بالأحرى الاحلاليّة، بمعنى اقتلاع شعب من جذوره والمجيء بأطياف بشريّة من جميع الأصقاع العالم…
ثانيا : قام المشروع على «أسطورة دينيّة» بمعنى عودة يهود العالم إلى «أرض الميعاد»، ممّا يعني أنّ التوجه إلى فلسطين والإقامة فيها وإقامة «الوطن القومي لليهود»، وفق وعد بلفور، يمثل تجاوزًا للمنطلقات التي قام على أساسها «الاستعمار الكلاسيكي» أي تفضيل المستعمرات الغنيّة بالثروات على غيرها عديمة الفائدة الماديّة…
جاء المشروع الصهيوني، في الآن ذاته، في شكل الامتداد للمشروع الاستعماري، كما هو «المتعهد» بالدفاع عن حقوق الدول الغربيّة التي ترى في الكيان الصهيوني ذلك «المعيق» لقيام امتداد عربي إسلامي، يشمل بلاد الشام بمصر ومن ورائهما كامل الفضاء العربي والإسلامي.
عند طرح السؤال عن الأسباب الذي جعل من الكيان ما هو عليه راهنًا، بمعنى قدرته على التحوّل إلى ذلك «البعبع» القادر من خلال القصف الجوّي على إبادة العباد بأعداد تتزايد من لحظة إلى أخرى، نجد أنّ المشهد (من قبل نحن العرب والمسلمين وأحرار العالم) ليس ورديا بالكامل وكذلك ليس قاتمًا في المقابل.
من بركات «طوفان الأقصى» أن انقشعت غمّة الصراع السنّي/الشيعي، فكان أن غابت أو أصاب البكم جميع الأصوات التي ارتفعت خاصّة طوال الحرب الكونيّة على سورية، حين تبيّن سواد أعظم من العرب والمسلمين أنّ بقدر «الشجاعة» التي أبداها هؤلاء «الثوّار» فيما قالوا أنّها «نُصرة للشعب السوري»، بقدر ما أصابهم العمى والطرش أمام طوفان الأقصى سواء في فلسطين أو لبنان.
وجه أخر أزاح عنه طوفان الأقصى القناع ونزع عنه جميع أنواع اللثام، هو «الديمقراطيّة» في نسختها الغربيّة الليبراليّة، التي كانت إلى حدود السابع من أكتوبر تشنّف أسماعها بمحاضرات في شكل المواعظ والدروس، عن استحكام التخلّف بين صفوفها وانعدام أي ديمقراطيّة، ممّا يستوجب التسليم لهم بضرورة دفعنا وإن لزم بالسلاح إلى «الارتقاء» نحوها. العجب كلّ العجب في أنّ لفيف من أهلنا في البلدان العربيّة والإسلاميّة ليس فقط صدّق هذا الادّعاء، بل (وهنا المصيبة) شرّع الاستقواء به شرفا لا يوازيه أي شرف أخر.
صار الصغير قبل الكبير والأمّي قبل المتعلّم، على يقين قاطع أنّ «الديمقراطيّة» في نسختها الغربيّة/الليبرالية لا تعدو أن تكون سوى «سلاحًا» أسوة بالأسلحة الحربيّة، حين تستلّه القيادات في الغرب بغية تأديب «المارقين» من أهلنا.
توسيع دائرة الرؤية والنظر إلى المشهد الماثل أمامنا في الوقت الحاضر، تخبرنا بأنّ الخسارة الكبرى التي تكبّدها الكيان الصهيوني ليست عسكريّة، بل في انقشاع «الكذبة الكبرى» على أنّهم «الأفضل» بذاتهم قبل «التفوّق» بما يملكون من قدرة، لم ترقَ إليهم «الشعوب المتخلفة» المحيطة بكيانهم، بل يمكن الجزم أنّ حركة حماس يوم السابع من أكتوبر، ومن بعدها المقاومة الاسلاميّة في لبنان بمعيّة بقيّة المحور أنّها (أي المقاومة) استوعبت «الحداثة»، بل افتكت منها قصب السباق وجعلت الكيان الصهيوني يغرق في أساطيره، بل هو (وهنا مصيبته) منذ الانسحاب من غزّة وتشييد الجدار الفاصل في الضفّة الغربيّة، ارتدّ إلى «الغيتو» [الدائرة بالمعنى الإيطالي] في نفي أو هي القطيعة مع صورة «الإسرائيلي/الأسطورة» القادر (بمفرده) على هزم جميع الأعداء مجتمعين.
روّج الصهاينة الكذبة وصدّقوها عندما آمن بها غيرهم من الشعوب، لتطمئن قلوب جميعهم، لولا طوفان الأقصى الذي ليس فقط كشف كذبة التفوّق بل جعل اليهود في فلسطين يكفرون بها…
مجمل الخطاب الصهيوني منذ السابع من أكتوبر، قام على ثابت وحيد، أيّ الكيان «في خطر وجودي» والأخطر من المخاطر جميعها عدم القدرة الدفاع عن الذات. ممّا يعني أنّ الكيان فقد سبب وجوده، وبالتالي انعدمت الوظيفة وصار الغرب «ملزمًا» بإنقاذ صنيعته، ليس من باب الإيمان بقدرة هذا الكيان على تأمين مصالحه، بل (وهنا الأهميّة) أنّ هزيمة الصهاينة وفقدان سبب وجودهم الذي جاؤوا بسببه، سيجعل طيفسيتزايد في الغرب يطرح أسئلة عن الجدوى من وجوده أصلاً…
من طالع وسائل الإعلام داخل الكيان وكامل الدول الصديقة لها يوم السابع من أكتوبر، يرى اجماعًا على أنّ حماس أخذت جيش العدوّ «على حين غرّة» ممّا يعني (ضمنيّا) أنّ لا لوم على هذا الجيش، الذي سيردّ الصاع صاعين أو صيعان عديدة.
سواء في غزّة وخاصّة في لبنان، تبيّن العالم حدود قوّة هذا الجيش المدجّج بأشدّ الأسلحة فتكا وسلاح جوّ لا نظير له في المنطقة، لنجد أنّ عامًا كاملا لم يكفِ لتلقين «المخربين» الدرس الذي سيجعلهم يرفعون الراية البيضاء»، وبالتالي يتمّ نسخ ما جدّ منذ السابع من أكتوبر.
ثبت بالدليل المادّي القاطع، أنّ المجزرة المتواصلة منذ أكثر من سنة وأكثر في غزّة ومنذ قرابة الشهرين في لبنان، عاجزة كلّ العجز عن جعل هذا الجيش يستردّ هيبته، بل ترسّخ بما لا يدع للشكّ أنّ أزمة الكيان لا تقف عند كمّ السلاح ونوعيته أو في مقدار المعونات بأشكلها، بل هي تخصّ «الفرد» على هذه الجبهة أو تلك…
دليل ذلك أنّ عدد من يعانون من أزمات نفسيّة من الجنود الصهاينة يُعدّ بالآلاف، في حين أنّ لا صهيوني واحد يملك جرأة تخيّل أن عنصرًا واحدًا من المقاومة قد ينتابه اكتئاب عابر…
هو صراع إرادات خسره الصهاينة رغم الثمن المرتفع جدّا الذي لا تزال الحاضنة الشعبيّة تدفعه، بل يسأل المرء من البلدان البعيدة عن جبهات القتال، من أيّ طينة هؤلاء الذين يملكون قدرة جماعيّة، على الارتقاء فوق شلال الدم وقوافل الشهداء.
تبقى نقطة الضعف لمحور المقاومة أنّ العمق العربي (عند التلطّف في التوصيف) لا يرقى إلى ما هو مأمول منهم، سواء (مع بعض الاستثناءات) الحكومات أو النخب وخاصّة الشعوب، التي لم تقم بما يمليه الواجب ويستلزمه الظرف.
جولة بسيطة بين صفوف هذه الشعوب، يثبت بما لا يدعو لأيّ شكّ أو النقاش، أنّ الوعي فرديّ وباطن، وليس جماعيّ وظاهر، لتجد الفرد ينتقد الجماعة ويندّد بما آلت إليه من وضع، معتبرًا ذاته «بريئا، لا يشمله التعميم…
يتجاوز السؤال انخراط الشعوب في الإيمان بالمقاومة، ليكون عن أسلوب نقل الوعي من بعده الفردي/الباطن إلى الجامع/الظاهر؟
ذلك هو السؤال…
بقلم الكاتب نصر الدين بن حديد – تونس