كتب وفيق قانصوه في “الأخبار”:
يصرّ الجنرال ميشال عون، ابن التاسعة والثمانين، على أن يصطحبك إلى إحدى زوايا الحديقة ليريك «عربيشة الورد» التي زرعها، و«السنة الجاية إذا جيت لعنا بتشوفها معربشة عالسروات». يستيقظ عند السادسة والنصف صباحاً: بعد الدوش والرياضة الصباحية «حتى يضلوا إجرينا يحملونا»، وقراءة ما يُعدّ له من مقتطفات الصحف، يستقبل بعض الخواص، قبل أن يبدأ نهاره الفعلي عند التاسعة باستقبال زوار ووفود شعبية يأتون إلى «الجنرال» لا إلى الرئيس، لأن «الرئاسة تشبه عقد الإيجار لست سنوات وتجعلك مكتوماً ومُقيّداً». يستذكر الرئيس الراحل سليم الحص الذي «جمعتني معزّة خاصة به رغم أننا تحاربنا»، فهو «غير سياسيّي اليوم: رجل أخلاقي وشديد النزاهة». ومشكلته أنه وُجد في بلد «داشر بلا أمن وبلا قضاء». في اللقاء التالي، أول حديث صحافي للرئيس السابق منذ خروجه من قصر بعبدا
أنت من رعيل أدرك الحرب العالمية الثانية وعايش مرحلة ما بعدها والحرب الباردة وصولاً إلى يومنا، كيف تصف أوضاع العالم والمنطقة ولبنان؟
عصبة الأمم التي أنشئت بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى لتكون شرطياً دولياً لم تنجح في تطبيق مبادئها بالحفاظ على السلام بين دول العالم ومنع الحروب والنزاعات، ولم تمنع اندلاع الحرب العالمية الثانية، ما أدّى إلى انحلالها في نهاية المطاف. اليوم نحن في أجواء مشابهة. الأمم المتحدة التي حلّت مكان عصبة الأمم عاجزة عن وقف المسلخ البشري الذي افتتحته إسرائيل منذ أكثر من عشرة أشهر في غزة وأخيراً في الضفة الغربية. هناك، التاريخ يعيد نفسه كما في بيت لحم عندما ذبح هيرودوس الأطفال ليقضي على يسوع قبل أن يكبر، فيما العالم يتفرّج. لم يتمكّن مجلس الأمن من فرض وقف لإطلاق النار، ومزّق مندوب إسرائيل ميثاق الأمم المتحدة، ولم تجرؤ المحكمة الجنائية على أن تقول لإسرائيل: «يا محلا الكحل بعيونك». الأمم المتحدة انتهت. ونحن فعلياً اليوم نعيش نوعاً من حرب عالمية ثالثة. في أوروبا تدور حرب مدمّرة. وفي منطقتنا النار في كل مكان. ولبنان اليوم في وسط الحرب.
لديك موقف من هذه الحرب؟
أنا ضد مشاركتنا فيها لأسباب عدة: لبنان أصغر دول المنطقة، وليست بيننا وبين غزة حدود مشتركة ولا علاقات اقتصادية ولا اتفاقية دفاع مشترك، ولا الدولة اللبنانية قرّرت هذه المشاركة في هذه الحرب ولا جامعة الدول العربية.
لكن حزب الله انخرط في الحرب كإجراء استباقي، إلى جانب إسناد غزة، لاحتمال شنّ إسرائيل حرباً على لبنان، أي وفق المنطق الاستباقي نفسه الذي اعتمده في الحرب السورية والذي لم تعترض عليه
لكنّ الأميركيين لا يريدون دخول الإسرائيليين إلى لبنان.
تصدّق الأميركيين؟
موقفهم حتى الآن كذلك، فلماذا نعطيهم عذراً بكسرنا القرار 1701. موقفي نابع من الخشية من الخسارة أمام الإسرائيليين والخوف على مستقبل لبنان. بيننا وبين الحزب علاقة عمرها 18 عاماً. في عدوان 2006 لم يكن أحد غيري مع المقاومة، واشتغلت ناطقاً إعلامياً باسمها رغم كل التهديدات والتحذيرات.
ما الذي تغيّر عن عام 2006؟
أولاً الأسلحة المتطورة التي نشهدها في حرب اليوم. ثانياً، في عام 2006 كانت أميركا داعمة للحرب، لكنها هذه المرة حضرت بأساطيلها إلى المنطقة منذ اليوم الأول بعد 7 تشرين. هل موازين القوى تمكّننا من مواجهة أميركا؟ في المرة الماضية اعتدت علينا إسرائيل، فيما هذه المرة نحن من بدأ المعركة وأعطيناهم «ممسكاً» علينا. خشيتي نابعة من أن هذه الحرب تبدو بالنسبة إليّ حرباً بغطاء دولي واسع. لاحظ، إنه رغم التعاطف العالمي على المستوى الشعبي مع مأساة الفلسطينيين في غزة، لم تقدم أيّ من الدول الفاعلة على إدانة إسرائيل ولم تلوّح أيّ منها على الأقل بخفض مستوى العلاقات معها. ويبدو كما لو أن الجميع مع هذه الحرب.
بغضّ النظر عن موقفك من الحرب، كيف ترى الأداء السياسي والعسكري للمقاومة؟
الأداء عموماً عقلاني، ولديّ ثقة بالسيد حسن نصرالله. الأداء السياسي correct، ولكن ماذا عن نوايا الطرف الآخر؟ عسكرياً، يتصرّفون بذكاء. هناك امتصاص للهجمات وردّ فعل جيد، وتبيّن أن الأمر أصبح شديد الإزعاج لإسرائيل، وهذا أمر يفرحني بالتأكيد. وأنا أتمنى من كل قلبي أن أكون قد أسأت التقدير، وأن تنتهي الحرب ولبنان بحدوده الحالية، لأن لديّ خشية حقيقية من أن الإسرائيلي يريد أن يحتل منطقة جنوب الليطاني لإقامة منطقة عازلة.
كيف هي علاقتك مع حزب الله حالياً؟
هادئة. نحن حريصون على العلاقة وعلى عِشرة 18 عاماً، ولا أرضى أبداً بأن يتحوّل الخلاف السياسي إلى خلاف طائفي، وطلبت التعميم على جميع محازبي التيار بالابتعاد عن هذه اللغة. لديّ بعض العتب على عدم دعم الحزب لي في بعض الأمور كالتدقيق المالي الذي كان أمراً مهماً بالنسبة إليّ. زعلت وتعاتبنا. لكن هذا لا علاقة له بالموقف الاستراتيجي. ومن المؤكد أنني سأفرح معهم جداً إذا انتصروا في هذه الحرب، وإذا خسروا – لا سمح الله – سأحزن معهم. لا أتنازل عن قناعاتي. عندما كنا على وشك توقيع اتفاق مار مخايل نصحني الأميركيون بعدم الذهاب بحجة أن عليّ خطراً ثم هدّدوني بوضعي على لائحة «أوفاك». ولم يغفروا لي موقفي هذا. عندما زار وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو لبنان كان طلبه مني ومن جبران باسيل أن نفكّ العلاقة مع الحزب. كان جوابي أننا بلد متنوّع وبرلماننا متعدّد وكل الناس يتكلمون مع بعضهم. لم يعجبهم ذلك فنفّذوا التهديد بجبران الذي تعرّض منذ 17 تشرين 2019 ولا يزال لاغتيال سياسي.
هل هناك تواصل بينك وبين السيد حسن نصرالله؟
وضعه لا يسمح بذلك.
هناك انقسام طائفي عميق اليوم ولهجة سائدة خصوصاً في الشارع المسيحي تقوم على شعار «ما بيشبهونا»؟
قد نختلف في السياسة وفي العادات والتقاليد وفي طريقة العيش. نحن متنوّعون، والقرآن يقول: ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة. هذه توصية إلَهية بالتنوع. الخطاب الطائفي غير مقبول. قاتل واستشهد معي جنود سنة وشيعة ومن كل المذاهب، فكيف أقول إنهم لا يشبهوننا. الخلافات السياسية والخلاف على الرئاسة، قادرون على التوصل إلى حلول لها، وهي تبقى أقل خطراً من الطائفية. يجب ألّا يتحوّل أي خلاف سياسي إلى خلاف طائفي. ما يهمّني هو محيطي. عندما كنت أمثّل 72% من المسيحيين جئت بهم غطاء لحزب الله لأنّي أريد أن أعيش مع محيطي. هل أعيش مع محيطي أم أقول «ما بيشبهونا»؟ مشكلتنا لخّصها الرئيس إميل إدّه عندما عارض الاستقلال وخوّنوه. كان رأيه «أننا شعب غير قادر على بناء دولة وكل فئة منه مرتبطة بمرجعية خارجية وأن المسيحيين يرون في لبنان أرز الرب، والمسلمين يريدونه أرض القبب والمآذن، وهذا يعني أننا كل 20 سنة سنشهد خضّة». لذلك دعا إدّه إلى بقاء الفرنسيين بعض الوقت «لنتعلم منهم كيف نبني دولة». لكن هناك من سحب مسدّساً، وهناك من أنزل علماً. نلنا الاستقلال ولم نبنِ الدولة، ولم ننجح في بناء حالة لبنانية جامعة تجنّبنا انعكاسات خلافات الخارج ومشاكله.
أين أصبح الملف الرئاسي؟
القصة صارت دولية وصارت هناك لجنة خماسية. أخشى أن هناك من خطّط من الخارج لهذا الفراغ ولهذا الاهتراء، وتعمّد ألا تكون هناك حكومة شرعية بعد الأوراق الكثيرة التي تبادلناها مع الرئيس المكلّف آنذاك نجيب ميقاتي. النتيجة اليوم أنهم «حرقوا دين» الدستور. وإلا كيف يُمدّد لقائد الجيش وهناك 20 ضابطاً أفضل منه. هذا أيضاً تخريب للجيش الذي أصبح عاجزاً عن القيام بواجباته بسبب الانهيار المالي، وكذلك بسبب من سرقوا المؤسسة العسكرية.
أين أخطأت في عهدك؟ في التعيينات التي قمت بها مثلاً؟
خياراتي في التعيينات التي قمت بها جاءت بعد تدقيق في مهنية الأشخاص بعيداً عن الانتماءات. لم أعمل وفق مبدأ الولاء الذي أعتبر أنه «خارب» البلد.
جبران ليس ديكتاتوراً بل صاحب قرار ولديه نظام يعمل على تطبيقه
ألم تخطئ بالتمديد لرياض سلامة؟
هذا كذب. طلبت من الرئيس نبيه بري ومن غيره بأن نعيّن حاكماً لمصرف لبنان، فكان الجواب أنه «مش وقتها». كان معنا ثلث الحكومة فقط، ومعروف من يقترح اسم الحاكم. لبنان أصبح عمره اليوم 104 سنوات، ورغم كل الفساد المعشعش فيه، تمكّنت من المسّ بقدس الأقداس، وفرضت التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وفي حسابات الحاكم الذي جعله القانون في الموقع الأقوى في الدولة.
ما الذي يجري داخل التيار الوطني الحر؟
هناك تقصير من بعض النواب وأخطاء ارتكبها النواب الأربعة، وتبيّن أنه باتت لديهم ميول جديدة وسياسة جديدة، وهناك مواقف وكلام قيل، وسفرات سياسية إلى الخارج من دون تشاور. لذلك «عم نشيلن» أو «عم يطلعوا».
لكنّ بعضهم كان مقرّباً جداً إليك حتى أثناء وجودك في القصر مثل الياس أبو صعب؟
نعم، وعُين وزيراً مرتين وانتُخب نائباً مرتين. وعلى افتراض أنه لم يطلب ذلك، أليست لي «جميلة» في ذلك؟ هناك قلة وفاء لدى البعض.
أريد أن أعيش مع محيطي لا أن أقول «ما بيشبهونا»
ألا يمارس جبران باسيل ديكتاتورية داخل التيار؟
لديه نظام يعمل على تطبيقه. ليس ديكتاتوراً، بل صاحب قرار وهم لا يريدون ذلك. ما من قرار فصل يصدر من دون تعليل. كل نائب في المجلس اليوم يتحمّل مسؤولية عدم إقرار القوانين الإصلاحية كقانون الكابيتال كونترول، فما بالك إذا كان رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان يلعب مع آخرين دوراً في عدم إقرار هذا القانون، ما أدّى إلى تهريب ثروات وحُمّلنا وزر ذلك شعبياً. بالنسبة إليّ، كل مجلس النواب سقط عندما توقّف النواب عن المراقبة والتشريع الإصلاحي.
هذا الخروج من التيار ألا يضعفه شعبياً؟
التيار لا يزال الأقوى مسيحياً. لا أخشى على مستقبل التيار ولن يصبح على يمين القوات اللبنانية. التيار يصحّح نفسه، وليس في هذا عيب. هذه المجموعة أُخرجت لأنها أخطأت. والمشكلة أن الخطأ تحوّل إلى سلوك، فكان لا بدّ من وضع الأمور في نصابها.