زاهر أبو حمدة
..هذا وأسقط المغول الخلافة العباسية، وسيطروا على العراق بقيادة هولاكـو عام 1258، وزحفوا بجحافلهم إلى بلاد الشام. هنا أسرع الحكام المسلمون لاسترضائهم؛ فأرسلوا لهم الهدايا الثمينة والتعزيزات العسكرية، كما فعل صاحب بلاد الشام الناصر يوسف، وصـاحب الموصـل بدر الدين لؤلؤ، وصاحب الكرك والشوبك المغيث عمر. وانضمت إلـيهم وحدات عسكرية من الكرج (مسيحيون يسكنون جبال القبق/القوقاز)، والأرمن من جيش هيثوم (Hetoum) ملك أرمينيا، وقـوات صليبية لبوهيموند السادس (VI Bohemond) أمير أنطاكية الفرنجي. هكذا انحاز مسيحيو الشرق والفرنجة، وفقاً لما اتفقت عليه المصادر إلى المغول لقتال المسلمين. إلا أن صاحب إمارة ميافارقين الملك الكامل الأيوبي رفض الخضوع لهولاكو، وقرّر المواجهة.
ومن ناحية عسكرية، كان لزاماً على جيش التتار اجتياز ميافارقين وتوابعها. فوجّه هولاكو قسماً من جيشه إليها بقيادة ابنه الأمير يشموت (Yachmout) والقادة: إيلكا نويان (Noyen Ilk)، سونتاي نويان (Noyen Suntai)، وما إن نزل المغول على ميافارقين حتى وصلتهم النجـدات من: صاحب الموصل، وصاحب ماردين، وسلاجقة الروم. هذا يعني أن الكامل محمد يقاتل أبناء دينه قبل أن يقاتل الأعداء وهم في الأصل أكثر منه عدداً وعديداً.
أرسل يشموت رسولاً إلى الملك الكامل، ليدعوه إلـى الطاعـة والخضوع ومضايفتهم. فأجابهم رافضاً بكل جرأة وإباء: «ينبغي ألا يضرب الأمير في حديد بارد، ولا يتوقع الشيء المستحيل، إذ لا يوثـق بوعدكم، وإنني لن أنخدع بكلامكم المعسول، ولن أخشى جيش المغـول، وسأضـرب بالسيف ما دمت حياً…». وبعث رسائل إلى كل ملوك العرب والمسلمين، لكنهم لم يستجيبوا لنجدته، لا بل أرسلوا الهدايا إلى تبريز حيث يقيم هولاكو. في هذه الأثناء أحاطت عساكر يشموت، بالمدينة، وبنوا حولها سـوراً وحفروا خندقاً عميقاً، ثم نصبوا عليها المجانيق وابتدأوا بالحصار. واستمر أهل ميافارقين بالصمود من دون أي تراجع، وفي أواخر آذار 1258، وحين اطّلع هولاكو علـى أحوال المدافعين فيها، أرسل جيشاً بقيادة أرقتو نويان (Nuaian Ariqto) لمساعدة إيلكا نويان، وأصدر توجيهاته بأن يتابعوا الحصار حتى لا يبقى علف أو طعام في المدينة. لكن بـسبب كثرة الأمطار والثلوج وانعدام الأقوات وانتشار الوباء في خيول المغول، قرر يشموت الرحيل عن ميافارقين مستخلفاً عليها القائد سنتاي. وبالتالي، شدّد المغول الحصار وقلَّت الأقوات في البلد، ووقع الوبـاء فـي أهله، ونصب المغول السلالم على الأسوار. وفي النهاية تمكنوا من صعودها بعد استخدام الحيلة وخيانة بعض الأفراد مـن مماليك الأمراء.
صبر أهالي ميافارقين على الحصار قرابة السنتين (20 شهراً) إلى أن استنفدوا ما لديهم من الغذاء والأقوات، وعانوا من مجاعة رهيبة وانتشرت الأوبئة. هلكت دوابهم؛ فبـدأ الناس يأكلون الميتة، وأكلوا الكلاب والقطط والفئران… ومع ذلك حافظوا على ملكهم، الذي كلما اجتمع بهم في الجـامع قال لهم: «ليس الغرض من هؤلاء كلهم غيري، دعوني أخرج إليهم، وسلّموا البلد إلـيهم لتؤمّنوا على أنفسكم وأموالكم». فيقولون: «معاذ الله أن نفارقك حتى تروح أرواحنا؟». وكان الكامل حائكاً عاملاً معهم في السوق منذ ما قبل توليه أمرهم، وهنا تظهر العلاقة بين الراعي والرعية في الحياة وحتى الموت. وكان معروفاً بتقواه وورعه وشـجاعته وعدلـه وإحسانه لرعيته، يعيش من تعب يده، وكان عالماً شجاعاً وأديباً فاضلاً، وله نظم جيد ومتّزن:
تُرى تَسمح الدنيا بما أَنا طَالب/ فلي عزمـاتٌ دونَهن الكَواكِــب
وإن يكُنِ النَّاعي بموتي معرضاً/ فأَي كريـمٍ ما نَعتْـه النَّوائِــب
وما عجبي إِلَّا تَأسفَ عاقِــلٍ/ علَى ذَاهِبٍ مِن مالِهِ وهو ذَاهِب
..
أنهى عساكر المغول من إحكام قبضتهم على ميافارقين، وبطريقة وحشية حملوا الملك الكامل مع أخيه الأشرف موسى إلى هولاكو. ثم قُتل قتلاً وحشياً إذ أمر هولاكو، بتعذيبه حتى إنّهم كانوا يقطعون أجزاء من جسمه ويجبرونه علـى تناولها حتى استشهد. فقطع رأسه، وعُلق من شعره في شـبكة علـى رأس رمح قصير، وطِيفَ به في مختلف مدن بلاد الشام من حلب وصولاً إلى دمشق حيث عُلق على باب الفراديس.
ومن المفارقات الهامة أن الناصر يوسف والمغيث عمر وغيرهما من ملوك المسلمين، لقوا المصير نفسه لكن الشهيد الكامل محمد، صمد وقاتل ولم يتزلف، لا بل قدّم خدمة للمسلمين القادمين من مصر، حيث عسكر جند سيف الدين قطز وركن الدين بيبرس في الصالحية، وتقدّموا باتجاه غزة. ولولا الاستنزاف في ميافارقين لما استطاع المماليك من الإعداد، وكسب الوقت، لأن هولاكو كان في نيته السيطرة على بلاد الشام والتقدم نحو مصر.
…
انتصر المسلمون في معركة عين جالوت (25 رمضان 658 هـ/ 3 أيلول 1260م). وأُنزل رأس الكامل محمد ودُفن في مسجد الرأس (رأس الحسين) داخل باب الفراديس. وبدأت هزائم المغول حتى انسحبوا إلى ما وراء شرق الفرات، وما تبعها من أحداث كثيرة ومعارك متفرقة، ومنهم من دخل الإسلام. لكن استنزاف ميافارقين كان علامة كبرى وبشرى انتصار، ولعل الخلافات داخل العائلة الحاكمة المغولية لعبت دوراً هاماً، ولا سيما بعد وفاة الخان الأعظم مانكو خان.
…
إذا أسقطنا التاريخ وما حدث مع ميافارقين، بما يجري حالياً في غزة، ربما يكون التماثل في تفاصيل كثيرة. إلا أن أحداث غزة بالصوت والصورة، وتوثيقها ونشرها أسهل مما حصل قبل أكثر من ألف عام. لكن الأساس في القصتين أن الروح واحدة والمؤامرة متشابهة. ولعل غزة هي حقبة الاستنزاف الكبيرة لجيش الاحتلال، ومن ثم تكون «عين جالوت» أخرى على كامل الخريطة الفلسطينية، مع تحول جبهات الإسناد إلى جبهات قتال، بعدما تكون قد أعدّت العدة، وكُشف الوجه الحقيقي لدولة الاحتلال، ورُفع عنها الدعم الغربي العسكري والسياسي والإعلامي… والأهم أن الخلافات الإسرائيلية الداخلية ستكون جبهة إضافية لصالح المقاومة، كما الاشتباك الأميركي الإسرائيلي ولو كلامياً. والأكيد أن مصير يحيى السنوار، لن يكون كمصير الشهيد الكامل محمد؛ إنما مصير غزة هو مصير كل فلسطين والإقليم.
- ميافارقين، مدينة في ديار بكر. ووفقاً للمعلومات التي يقدمها في وصفها كل من ابن الأزرق الفارقي المتوفى بعد 577هـ/1181م، وعز الدين بن شداد المتـوفى 684هــ/1285م في كتابه «الأعلاق الخطيرة»؛ يتبين أنها كانت أيام الغزو المغولي مدينة كبيرة وفي وضع سياسي وأمني واقتصادي وحضاري جيد. فقد كان يحيط بها سور مزدوج مع فصيل، ولسورها 42 برجاً، و4 أبواب، ولها خندق، وفيها قصر عظيم كـان داراً للسلطنة، ويتبع لها ربض من جهة الشمال، فيه عين ماء تروي المدينة؛ ومن جهة الجنوب لها ربض آخر يسمى المحدثة فيه العديد من الأسواق والخانات، وفيها سوق للخيل، وجامع، وفي شمالها جبل حرم عباد الذي يضم أديـرة عامرة بالرهبان، وإلى الشرق منها ميـدان وجوسـق، وفيهـا مـدارس للحنفيـة والشافعية والحنابلة، وفيها كذلك ما يقارب مئتي مسجد والعديد من الحمامات.