من الشهادة إلى الحياة

من الشهادة إلى الحياة

كتب حسام مطر في “الأخبار”:

كان الاحتلال، صوره وأصواته وإرهابه، محور ذاكرة الطفولة ككل الجنوبيين ممن خرجوا للحياة في زمن العتمة، ما كان يراد له أن يكون «العصر الإسرائيلي» في ثمانينيات القرن الماضي.

ذاكرة الصوت دبابة تقصف وطائرة تهاجم، وذاكرة الصورة نزوح وتهجير إذ نعبر جسر القاسمية سيراً على الأقدام نحو شمال الليطاني، وخروج مبكر مرعب من الدوام الدراسي مع تساقط القذائف في محيط مدينة صور.

لكن ما جعل وعي الاحتلال ممكناً هو ذاكرة الرفض والتحدّي، لوحة كبيرة مرسومة على حائط متواضع في قرية جنوبية لرجل مهاب بعمة سوداء مع عبارة «يا إخواني الثوار أنتم كموج البحر متى توقفتم انتهيتم» فوقها شعار «أفواج المقاومة اللبنانية – أمل»، وفي قرية أخرى صورة على عمود لرجل آخر مهاب بعمّة سوداء مع عبارة «ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام». ربط الطفل الجنوبي بين العمّتين والعبارتين، فأدرك أن هناك صراعاً وأنه بشكل ما جزء منه.

في يوم من عام 1993، شاهد الفتى الجنوبي شاباً مهاباً بعمّة سوداء يقول بكل عنفوان: «كانت المعادلة في السابق أنا أفكر إذاً أنا موجود، أمّا المعادلة اليوم فهي أنا أقاوم إذاً أنا موجود»، وتمرّ بعدها على الشاشة مشاهد لشباب يقتحمون مواقع الاحتلال في جنوب لبنان مع صرخات التكبير والتلبية. كان ذلك الأمين العام الجديد لحزب الله السيد حسن نصرالله، وكانت مقولته تلك بمثابة صرخة وعي ووجود، حينها بدأت تتشكّل هوية جديدة وأسئلة جديدة، باختصار كانت تلك لحظة ولادة جديدة لجيل الاجتياح الإسرائيلي عامي 1978 – 1982.

عهداً وميثاقاً لقيام متجدّد

كان ذلك زمن الاستنهاض، كان السيد نصرالله يصنع وعياً مقاوماً، فهذا عالم لا يفهم إلا لغة القوة والمقاومة هي الخيار الوحيد وقوتها في إيمانها وإرادتها وكفاءتها وقوافل الشهداء هي الرد، فالمشكلة ليست في قوة إسرائيل بل في انهزام العرب من داخلهم. كان حسن عبد الكريم نصرالله يقوم بذلك من داخل صفوف الجماهير والناس العاديين الذين يتشارك معهم هوية مهمّشة. كان يظهر على نقيض الصورة المعروفة للزعامة اللبنانية، فقير خرج من أحياء الضواحي لا يبحث عن سلطة بل صاحب قضية محوريتها الناس ومتوثّب للتضحية لأجلها ولأجلهم في سبيل ربه.

لكن كان لا بد من الأمل ليتحقق الاستنهاض، وهو ما كان بين عامي 1996 و 1997 حيث أثبت السيد نصرالله أمرين في غاية الأهمية: الأول، أنه يمكن للمقاومة فعلاً أن تنتصر وتحمي شعبها (بعد الإنجاز العسكري في مواجهة عدوان عناقيد الغضب). والثاني، أن هذه المقاومة مخلصة وصادقة، إذ شاهد العالم السيد يتحسس بكفه وجهاً مكفّناً في تابوت خشبي، كان ذلك وجه نجله اليافع الذي قاتل الصهاينة في خطوطهم الخلفية. أصبح الأمين العام أباً للشهيد، صار «أبا هادي».

كانت معضلة العرب مع أنظمة ومنظمات حملت عنوان المقاومة أنها لم تصنع نصراً أو حملته للمساومة والتسلّط. كان تلك لحظة للأمل، هناك قائد عربي مختلف تماماً عن السائد، وهناك من استشعر طيف «ناصر» آخر.

كانت الأحداث تؤكد مقولات السيد فتزيده ثقة واندفاعاً وإنجازاً وقد زيّن ذلك بالتحصّن في إنكار الذات وإشراك الآخرين في المنجزات مهما قلّت مساهماتهم، فلا بد من صناعة أمّة المقاومة وليس حزبها فقط. إنه الخامس والعشرون من عام 2000، يقف السيد نصرالله في مدينة بنت جبيل المحررة من العدو الإسرائيلي ملقياً خطاب التحرير ومعلناً «أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت» مؤكداً عبارة سلفه بأن «إسرائيل سقطت».

أصبح السيد شديد الثقة بتحرير فلسطين مع توفر الفرصة لدعم الشعب الفلسطيني في هذا المسعى، وهو ما ساهمت في تعزيزه الانتفاضة الفلسطينية الثانية وانسحاب الصهاينة من غزة. فبدأ السيد نصرالله وحزبه يتحولان إلى مشكلة حقيقية لمنظومة الهيمنة الأميركية في غرب آسيا. لم يعد السيد نصرالله حينها قائداً للمقاومة الإسلامية فحسب، بل رمزاً لبنانياً وملهماً إقليمياً.

سرعان ما واجه السيد نصرالله أكبر مخاوفه، الفتنة السنية الشيعية مع بدء الغزو الأميركي للعراق (طرح حينها على الشيعة العراقيين والنظام العراقي الدخول في تسوية داخلية لمواجهة العدوان) ثم اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

ثم شنّت إسرائيل عدواناً على لبنان في عام 2006 تمكّن حزب الله من إحباطه مكرّساً قدرته الردعية والدفاعية عن لبنان وتأثيره المباشر في موازين القوى الإقليمية. وفي ظل سطوة السياسة التوسعية لإدارة جورج بوش الابن حاز الحزب على حضور دولي ضمن القوى الاجتماعية المعادية للإمبريالية.

إلا أن السيد نصرالله وجد نفسه أمام هاجس جديد هو ضرورة التورط داخل النظام السياسي اللبناني بعد الانسحاب السوري من لبنان، بالتوازي مع بدء مرحلة متقدّمة من الحرب السياسية الأميركية ضد حزب الله وفق مفهوم «مكافحة التمرد».

بدأ السيد يتحول إلى شريك كامل في إدارة وقيادة تحالف إقليمي يتبنى المقاومة والممانعة، يقع مركزه في الجمهورية الإسلامية في إيران. وفيما كان هذا المحور يجد نفسه أمام فرصة تاريخية لتغيير موازين القوى في الصراع مع المشروع الصهيوني، تحرك النظام الرسمي العربي بقيادة أميركية إلى تنشيط صراع إقليمي مذهبي في المشرق العربي وفق غايات جيوسياسية، ولا سيما بعد اندلاع «الربيع العربي».

وهنا تجدر الإشارة إلى مسارعة السيد تجديد ندائه الذي وجّهه إلى المعارضة العراقية عام 2003 بدعوة أنظمة المنطقة للدخول في تسويات سياسية مع قوى المعارضة وداعياً الأخيرة إلى تجنب الاقتتال الداخلي والاستعانة بالخارج. وهكذا تم جر محور المقاومة إلى حروب استنزاف متواصلة، استنزاف مادي وسياسي، أرهقته ودفعته للتمترس الهوياتي وإن نجح في حماية ساحاته الأساسية من الانهيار. شملت هذه المرحلة سلسلة واسعة من اغتيالات لقيادات مركزية في محور المقاومة، راكمت عبء القيادة الإقليمية على السيد وفتحت له مجالات واسعة للحركة في الوقت عينه. أدركت واشنطن ذلك فكثّفت من برامج عملها لاستنزاف حزب الله سياسياً وشعبياً واقتصادياً داخل الساحة اللبنانية.

مثّلت معركة «سيف القدس» (2021) في غزة فرصة للسيد لاستعادة المبادرة حيث عاد الزخم للصراع المباشر مع العدو الإسرائيلي والتئام الجرح بين حركة حماس ومحور المقاومة.

بعدها مباشرة توسّع المد النضالي المقاوم في الضفة الغربية في خضم تصاعد تاريخي للانقسامات داخل كيان العدو. حاول محور المقاومة استغلال هذه المرحلة لتسريع جهود بناء القوة والتكامل البيني بالموازاة مع تقدّم الجهود الأميركية لاستكمال التطبيع والتشبيك العسكري والاقتصادي من ناحية ومواصلة الضغط المستدام والنامي على ساحات المحور لإنهاكها وتكبيلها من ناحية أخرى. إلا أن تصاعد المقاومة داخل كيان العدو وتخبطه والتحولات الجارية في البيئة الدولية، جعلت السيد يقدّر أن عامل الوقت لا يزال يميل لصالح المحور. وقد تشارك مع الإمام السيد علي الخامنئي الدعوة إلى جعل دعم المقاومة المتنامية في الضفة الغربية في رأس الأولوية.

ثم كان السابع من أكتوبر 2023، وقد حسم السيد خياره سريعاً، فلا مفر من دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته دون مغادرة المسار الرئيسي لمحور المقاومة وهو الاستنزاف التراكمي نظراً إلى التقديرات حول موازين القوى.

كان السيد ينطلق من إدراك أن واشنطن وتل أبيب ستحاولان استغلال «طوفان الأقصى» لتوليد فرصة تاريخية لتصفية المقاومة داخل غزة وخارجها وتنشيط مسار التطبيع.

كانت فكرة الإسناد محاولة للموازنة بين تقليص احتمالات انتصار العدو في غزة وضبط احتمالات الحرب الإسرائيلية على لبنان. لم تخلُ هذه الحسابات الاستراتيجية من إصرار السيد على التزاماته الإسلامية والأخلاقية والقومية تجاه الشعب الفلسطيني. ظهر السيد قائداً لجبهة إقليمية في الخط الأمامي ساعياً لوقف الإبادة الإنسانية في قطاع غزة، في مواجهة النظامين الدولي والإقليمي معاً.

طالما تحدّث السيد عن ما يمكن لخيارات القادة أن تحدثه من فرق عند المنعطفات التاريخية، وهي خيارات أخلاقية واستراتيجية معاً. كان سعيه أن يُسقط الحرب من يد واشنطن وتل أبيب، الحرب على لبنان والمنطقة وليس غزة فقط، وهو ما تؤكده المخططات المستجدّة للتهجير والتوطين التي ترتجف هلعاً منها أنظمة الخيارات «العقلانية».

اختار السيد طريقه دون أن يضلّ فلم تُغْرِه سلطة ولم تُخِفْه أساطيل إمبراطورية الشر، طريق بدأ مع المستضعفين ووصل به قائداً لهم في وجه مستكبري العالم وشهيداً للإنسانية في مواجهة الإمبريالية. صنع السيد مصيره، وبذلك فرض على عدوه أنه حتى حين يتمكن من قتله أن يفعل ذلك وفق شروطه.

لم يكن أمام العدو إلا أن يقتل السيد في ذروة الصراع وأكثر لحظاته نقاء ووضوحاً، الحق كله في مقابل الباطل كله، قتلاً استلزم إسقاط 85 طناً من المتفجرات على رجل واحد.

بذلك تحقّق للسيد أن يكون «حسين عصره»، فاتحاً وشهيداً وروحاً ثورية ستؤرق قاتليه لسنوات طويلة مقبلة، وإرثاً حياً يتجدّد مع كل دورة للظلم والطغيان، وتكبيرة حرية مع كل صلاة. عمّة سوداء لرجل مهاب ستخرج فوق الشمس غداً، خروج يريده القتلة اكتمالاً لنهاية يظنونها، ونريده عهداً وميثاقاً لقيام متجدّد.

 

Exit mobile version