منطقة عازلة بضمان الـ1701 بعد تعديله
كتب طوني عيسى في “الجمهورية”:
حتى الآن، تبذل الولايات المتحدة كل جهد لمنع إسرائيل من توسيع الحرب على لبنان. لكن الرهان على الضمان الأميركي محدود ومشروط. ففي أي لحظة، يمكن لبنيامين نتنياهو أن يتفلت من كل الضوابط.
منذ العام 2006، يعتبر الأميركيون أنفسهم حراس القرار 1701، في اعتباره الوصفة المناسبة لضمان “حسن الجوار” بين لبنان وإسرائيل، بضمان قوات “اليونيفيل” التي تم توسيع صلاحياتها بهذا القرار، لكي تتولى أمن المنطقة الحدودية، بالتنسيق مع الجيش اللبناني. وطوال 17 عاماً مضت، أي حتى اندلاع الحرب في غزة والجنوب، تجنبت إسرائيل توجيه أي ضربة لـ”حزب الله” في لبنان. وغالباً ما شنت الغارات على أهداف لـ”الحزب” وإيران داخل الأراضي السورية، التزاماً منها بالتفاهم مع واشنطن. فلبنان في هذا المعنى بقي “خصوصية أميركية” ليس مسموحاً المسّ بها، حتى من جانب الحليف الأقرب إسرائيل.
هذا “الستاتيكو” خدم إسرائيل لأنه أراحها طويلاً على الجبهة الشمالية، لكنه وفر للبنان أيضاً حماية طويلة الأمد. وفي ظله، جرت المفاوضات التي أدت إلى ترسيم الحدود البحرية في العام 2022، وتقاسم ثروات النفط والغاز في المياه بين لبنان وإسرائيل. وكانت الاستعدادات جارية لإطلاق المفاوضات الرامية إلى ترسيم الحدود البرية، لكن الحرب جمدت المساعي السياسية، مرحلياً على الأقل.
بعد عملية “طوفان الأقصى”، قال الإسرائيليون: لن نرتكب الخطأ إياه على حدود لبنان. لن نمنح “حزب الله” فرصة تكرار ما فعلته “حماس” في غزة. وهذه المرة، لن نقبل إلا بتثبيت المنطقة العازلة داخل الأراضي اللبنانية، بعمق كافٍ من أجل طمأنتنا. وهذا الطلب لن نتراجع عنه، بل لا مجال للنقاش حوله. وسنعمل لتحقيقه بالديبلوماسية أولاً، وبالقوة إذا فشلت المحاولة.
أخذ الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين على عاتقه تعطيل أي مفاجأة سيئة بين لبنان وإسرائيل. فقد أقنع إسرائيل بأن واشنطن ستضمن عدم تجاوز “حزب الله” قواعد الاشتباك السائدة. وأقنع لبنان بأن واشنطن ستضمن منع إسرائيل من تنفيذ أي مغامرة كبرى، أي الاجتياح البري للجنوب أو توسيع الحرب لتشمل أهدافاً حيوية في الداخل اللبناني. وارتأى هوكشتاين أن المخرج الأنسب من المأزق هو إقناع “الحزب” بوقف حرب “المساندة”، والتزام القرار 1701. لكنه، عندما فشل في ذلك، خفض سقف طموحاته. فبدلاً من وقف الحرب، بات يعمل لإبقاء حدود الاشتباك مظبوطة. وبدلاً من مطالبة “الحزب” بسحب سلاحه إلى ما وراء الليطاني، طالب بالانسحاب بضعة كيلومترات فقط عن الخط الأزرق. ولكن، على رغم هذه “التنزيلات”، أصر “حزب الله” على القتال ما دامت حرب غزة مستمرة. ورفض أي انسحاب لمقاتليه.
عملياً، هوكشتاين “سحب يده” من الوساطة في الفترة الأخيرة. وفي العادة، عند انسحاب الوسيط، تصبح الدفة في يد الطرف الأقوى. وفوق ذلك، بات الأميركيون اليوم أكثر إلحاحاً، كما إسرائيل، على إنشاء منطقة عازلة في لبنان، بضمانات قوية، بحيث لا تتكرر عملية “طوفان الأقصى” على الحدود الشمالية، لا اليوم ولا في المستقبل. ولكن، حتى الآن، يرفض الأميركيون منح إسرائيل ضوءاً أخضر لتنفيذ عملية عسكرية واسعة في لبنان.
وفي هذا الشأن، تحرص حكومة نتنياهو على تجنب إحراج واشنطن، حليفها الدولي الذي يضع أسطوله وقدراته وخبراته العسكرية في التصرف، دعماً لها، في حالتي الدفاع أو الهجوم. ولكن، في الفترة الأميركية الحرجة انتخابياً، استطاع نتنياهو أن يلعب ورقة الناخبين اليهود والمتعاطفين مع إسرائيل. وأظهر خطابه في الكونغرس نجاحاً في استثمار هذه الورقة.
الصورة اليوم هي الآتية: إدارة جو بايدن متحمسة أكثر من أي يوم مضى لمساعدة إسرائيل على تأمين الهدوء في الحدود مع لبنان وضمان ذلك بإنشاء المنطقة العازلة، أي التنفيذ الدقيق لبنود القرار 1701. وهذا الحرص ظهر في التجديد قبل أيام لـ”اليونيفيل” عاماً آخر. لكن التطور في موقف واشنطن هو أنها ربما تتساهل مع أي عمل عسكري تقرر إسرائيل تنفيذه، تحت شعار إنهاء حرب الاستنزاف وضمان أمن الشمال وفرض المنطقة العازلة في جنوب لبنان.
وثمة من يعتقد أن الأميركيين باتوا قريبين جداً من الموقف الإسرائيلي، في ما يتعلق بالوضع مع لبنان. ولذلك، هم سيدعمون إحياء القرار 1701، وبصيغة جديدة متشددة، بحيث تنشأ المنطقة العازلة بدعم دولي شامل، وضمان “اليونيفيل”، علماً أن القرار 1701 في صيغته الحالية يمنح هذه القوات هوامش عمل واسعة، لم تستفد منها طوال الأعوام السابقة.
يعني ذلك أن المرحلة المقبلة ستشهد ضغطاً إسرائيلياً وأميركياً ودولياً عالياً على لبنان، ليسير في التسويات التي يجري تحضيرها، بمعزل عما سيتجه إليه الملف الفلسطيني، في غزة والضفة الغربية. وإذا رفض لبنان الاستجابة للمطالب الدولية، فمن المرجح أن يشهد مرحلة ساخنة جداً ولا أفق واضحاً لها.