لا صوت يعلو فوق صوت المعركة في غزّة. لكنّ الوضع يختلف في العاصمة القطريّة الدّوحة على بُعدِ 1,800 كلم من القطاع. كذلك الحال في العاصمة العُمانيّة مسقط على بُعدِ 2,500 كلم.
على وقعِ المعارك والأساطيل الأميركيّة المُتمركزة في البحر الأبيض المتوسّط والخليج العربيّ، تشهدُ العاصمتان العربيّتان زخماً دبلوماسيّاً وأمنيّاً يترافق مع ارتفاع حدّة المعارك البرّيّة في غزّة بين عناصر المُقاومة الفلسطينيّة والجيش الإسرائيلي. ولئن اختلفَت “عناوين الطّاولات”، إلّا أنّ المُشتركَ في مفاوضات الدّوحة ومسقط هو حضور إيران.
تُفاوضُ طهران في الدّوحة بالاشتراكِ مع ذراعها الفلسطينيّة حماس حولَ الوضع في قطاع غزّة، ويتولّى القطريّون نقل الرّسائل والاقتراحات بين طهران وتل أبيب.
أمّا في مسقط فتُفاوضُ الولايات المُتحدة على برنامجها النّوويّ ونفوذها في المنطقة بوساطة عُمانيّة. واتّسعَت المحادثات نحوَ “الحلّ الشّامل” لأزمة الشّرق الأوسط، ورسم الخارطة الجديدة.
تحفرُ الدّوحة جبل الحربِ بين إسرائيل وحماس بإبرة دبلوماسيّة. يعتمدُ القطريّون على نجاحهم غير مرّة في الملفّات الصّعبة والمُعقّدة. يتسلّحون بحلفهم الاستراتيجي مع الولايات المُتحدة، والعلاقات الجيّدة مع إيران، وتواصلهم اليومي مع قيادة حماس، والخطّ الأمنيّ السّاخن المفتوح مع إسرائيل.
كثيرة هي التجارب التي خاضتها قطر، بدءاً من حرب تمّوز 2006، وصولاً إلى ملفّ الرّهائن الأميركيين في إيران، مروراً بالملفّ الأفغاني والحروب بين غزّة وإسرائيل.
يكشف مصدر دبلوماسيّ لـ”أساس” أنّ المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران باتت أكثر تعقيداً، لكنّ الاتفاق ليسَ مستحيلاً
يقول مصدر دبلوماسيّ عربيّ لـ”أساس” إنّ المفاوضات الجارية في قطر تهدفُ إلى إيجاد “خرقٍ” في موضوع الأسرى الإسرائيليين والأجانب لدى حماس، على اعتبارِ أنّ أيّ خرقٍ في هذا الإطار قد يفتح الطّريق لبحث الوصول إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النّار في غزّة.
نهاية الأسبوع الماضي، وصلَ رئيس جهاز “الموساد” ديفيد برنياع إلى الدّوحة. وبعد مُغادرته، حطّ وزير الخارجيّة الإيراني حسين أمير عبد اللهيان رحاله في العاصمة القطريّة يوم الثّلاثاء الماضي.
يقول القطريّون إنّ برنياع تعمّد زيارة الدّوحة بعد ساعات من بدء العمليّة البرّيّة ضدّ قطاع غزّة، وذلكَ في محاولة لتحسين الشّروط الإسرائيليّة في التّفاوض.
تتلخّصُ المعلومات عن زيارة برنياع وعبد اللهيان للدّوحة بالآتي:
1- رفضَت حركة حماس تسليم إسرائيل قائمة بأسماء الأسرى، بحجّة أنّها لم تكمل إحصاءهم، وأنّ استمرار المعارك يعيق استكمالَ هذه الخطوة.
2- رفضَت حركة حماس مطلباً إسرائيليّاً نقله برنياع يتعلّق بخروج رئيس الحركة في غزّة يحيى السّنوار وشقيقه محمّد، والقائد العام لكتائب القسّام محمّد الضّيف، ورئيس الأركان مروان عيسى من غزّة إلى العاصمة اللبنانيّة بيروت أو أيّ مكانٍ آخر.
3- يصفُ القطريّون المُفاوضات بالإيجابيّة والبنّاءة، وإن كانت بعض العوائق ما تزال موجودة، ويقولون إنّه يُمكن التّوصّل إلى استكمال اتفاق بشأن الأسرى الإسرائيليين والأجانب.
4- طلبَ عبد اللهيان من حماس بعد لقائه برئيس المكتب السّياسيّ إسماعيل هنيّة الإعلان عن نيّتها إطلاق سراح عدد من المُعتقلين الأجانب من غير العسكريين، وبالفعل بعد ساعات قليلة أعلنَ المُتحدّث باسم كتائب القسّام أبو عبيدة أنّ الحركة مُستعدّة لإطلاق سراح بعض الأسرى في الأيّام المُقبلة.
5- قبل ساعات من وصول وزير الخارجيّة الإيرانيّ إلى قطر، وزّعت كتائب القسّام مقطع فيديو لأسيرات إسرائيليّات يتّهمنَ نتانياهو بمحاولة قتلهن ويُحمّلنه مسؤولية أسرهنّ بسبب فشله في الإدارة السّياسيّة والأمنيّة والعسكريّة. تقول المصادر إنّ نشرَ الفيديو يدخل في إطار التفاوض حول الأسرى عبر الضّغط على الحكومة الإسرائيليّة وجبهتها الدّاخليّة.
6- أبلغَ رئيس الموساد الجانب القطريّ أنّ أيّ وقفٍ لإطلاق النّار، ولو تحت عناوين إنسانيّة، يعني السّماح لحركة حماس بالتقاط أنفاسها وتنظيم شؤونها الميدانيّة، لكنّه قال في الوقت عينه أنّه سيبحث هذا الأمر مع القيادة السّياسيّة والعسكريّة في تل أبيب.
7- نقلَ برنياع من الدّوحة إلى تل أبيب مطلباً “حمساويّاً” يتعلّق بإطلاق سراح الأسيرات الفلسطينيّات والأطفال في السّجون الإسرائيليّة الذين يبلغ عددهم 1,200 و390 أسيراً مُصابين بأمراض مُزمنة ومُستعصية، في مُقابل إطلاق سراح الأسرى “المدنيين”.
8- لم يعد الإسرائيليّون مُتصلّبين في موقفهم لجهة رفض إدخال الوقود إلى القطاع مقابل إطلاق الأسرى الأجانب، وذلك إثر اقتراح القطريين أن يكونَ الوقود بتصرّف الأمم المُتحدة التي تُشرف على توزيعه على المُستشفيات في غزّة.
لم يغِب الوضع في لبنان عن لقاءات عبد اللهيان في الدّوحة. إذ أبلغَ وزير الخارجيّة الإيراني أنّ بلاده “لا تريد توسيع الحرب في المنطقة”، وأكّدَ أنّ الأمين العام للحزب حسن نصرالله سيُعلن في كلمته الجُمعة عن معادلة جديدة ترسم “خطّاً أحمر جديداً” تهدفُ إلى “تقليم أظافر العدوان على غزّة، أكثر ممّا هي إشعال حربٍ في لبنان”. وهذا ما سمعه القطريّون أيضاً من أحد مسؤولي الحزب الذي زارَ الدّوحة قبل أيّام.
يقول مصدر دبلوماسيّ عربيّ لـ”أساس” إنّ المفاوضات الجارية في قطر تهدفُ إلى إيجاد “خرقٍ” في موضوع الأسرى الإسرائيليين والأجانب لدى حماس
ماذا عن مسقط؟
المُفاوضات الجارية في العاصمة العُمانيّة أكثر تعقيداً، وأشملَ. العنوان الأبرز هو البرنامج النّوويّ الإيرانيّ.
قبلَ أيّامٍ قليلة، قال وزير الخارجيّة الإيرانيّ إنّ مُبادرة سلطان عُمان، التي كانَ ملفّ الرّهائن أحد فصولها، ما تزال على الطّاولة. ولحقه مساءَ الثّلاثاء نظيره الأميركيّ أنتوني بلينكن بقوله: “انسحاب واشنطن من خطّة العمل المُشتركة JCPOA، كان خطأً كبيراً”.
قبل الخوض بتفاصيل المُفاوضات، لا بُدّ من الإشارة إلى عبارةٍ يقولها مصدرٌ بارز في محورِ إيران في مجالسه الخاصّة: “الوصول إلى اتفاقيات استراتيجيّة بين إيران وأميركا دائماً ما تكون طريقه مُعبّدة بالدّماء”.
يكشف مصدر دبلوماسيّ لـ”أساس” أنّ المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران باتت أكثر تعقيداً، لكنّ الاتفاق ليسَ مستحيلاً. ما يزال مُنسّق الشّرق الأوسط في مكتب الأمن القومي الأميركيّ بريت ماكغورك يحطّ رحاله في عُمان، وكذلك يفعل بالتّزامن كبير المُفاوضين الإيرانيين علي باقري كنّي.
يكمنُ التّعقيد في قراءة حرب غزّة لكلا الطّرفيْن. ولئن لم تكُن معركة “طوفان الأقصى” على التوقيت الإيرانيّ، إلّا أنّ إيران تعرفُ كيف تقتنصُ الفرص وتسحبَ ملفّات التفاوض إلى دوائر القرار في طهران.
تعتبر إيران أنّ ما يجري في غزّة قد يُحسّن من شروط تفاوضها مع الأميركيين، خصوصاً إذا ما تمكّنت حركة حماس، الوكيل الإيرانيّ في القطاع، من الصّمود في الحرب البريّة وإلحاق خسائر بشريّة فادحة بالجيش الإسرائيليّ الذي يُقاتل بالوكالة عن أميركا.
أمّا واشنطن فتعتقد العكس، إذ تُعوّل على أن يُلحقَ الجيش الإسرائيلي ضرراً واسعاً بالبنية العسكريّة لحماس، عدا عن الكلفة الباهظة للحرب على القطاع. وهذا من شأنه تحسين الشّروط الأميركيّة للتفاوض.
الرأي الرّاجح في دوائر القرار في واشنطن أنّه لا يُمكن أن يكونَ اتفاق نوويّ مع إيران ويبقى نفوذ أذرعها من مياه البحر الأحمر في اليمن وصولاً إلى لبنان وسوريا على مياه المُتوسّط. ما حصلَ في “طوفان الأقصى” خير دليلٍ على ذلك.
يتمحور التفاوض في مسقط على تقليص نفوذ إيران في المنطقة مُقابل اتفاقٍ نوويّ ورفعٍ للعقوبات وضماناتٍ أمنيّة. من السّذاجة الاعتقاد أنّ إيران قد تبيع أذرعها أو بعض أذرعها من دون مقابل كبير.
تشير الأوساط الأميركيّة في دوائر الخارجيّة لـ”أساس” إلى أنّ مهلة الـ6 أشهر التي ستسبق مفاوضات مدريد قد لا تكون سهلة على الشّرق الأوسط برمّته
إيران في مفاوضات السّلام؟
يقترحُ الأميركيّون أن تكونَ إيران طرفاً مفاوضاً على طاولة مُفاوضات السّلام التي من المُزمع عقدها في العاصمة الإسبانيّة مدريد بعد 6 أشهر، أي قبل انتخابات الرّئاسة الأميركيّة بنصف عام، وذلكَ بسبب قدرة إيران على تخريب أيّ مفاوضات سلام ما لم تكن طرفاً فيها.
يقول الأميركيّون إنّ إيران تمتازُ بهامش من “البراغماتيّة” للقبول بالسّلام. آخر فصول “الواقعيّة الإيرانيّة” كان قبول الحزب بترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل تحت شعار “نحن خلف الدّولة”. سبقته في عام 2017 وثيقة المبادئ السّياسيّة لحركة حماس التي أعلنت فيها قبولها بحلّ الدّولتين على أساس 1967.
هذا ما أكّده المرشد الإيراني علي خامنئي في نيسان 2022: “لا يمكن الوصول إلى أيّ حلّ بعيداً عن إرادة الشعب الفلسطيني”.
كذلكَ يعتبر الأميركيّون أنّه لا يُمكن لإيران أن تجلس إلى طاولة مُفاوضات السّلام مُتسلّحة بمئات آلاف المُقاتلين والصّواريخ والمسيّرات. وهذا محور الحديث الواسع في عُمان.
تشير الأوساط الأميركيّة في دوائر الخارجيّة لـ”أساس” إلى أنّ مهلة الـ6 أشهر التي ستسبق مفاوضات مدريد قد لا تكون سهلة على الشّرق الأوسط برمّته. فلا إيران تستطيع الجلوس إلى الطّاولة وأذرعها متمدّدة، ولا إسرائيل تستطيع الجلوس ورئيس وزرائها بنيامين نتانياهو ووزير الأمن إيتمار بن غفير والدّفاع يوآف غالانت ما يزالون في السّلطة.
إلى ذلكَ الحين سيكون الثّلاثي الإسرائيلي قد ذهبوا إلى منازلهم، أو السّجون. وهذا ما تريده الإدارة الأميركيّة. وفي الوقت عينه لن تكون إيران الشّرق الأوسط كما هي عليه في غزّة والعراق واليمن وسوريا ولبنان.
إقرأ أيضاً: غزّة تقسّم أميركا: حزبياً وسياسياً وأمنياً وشعبياً…
يحتاج كسر هذه المعادلات إلى دماء كثيرة ودمار واسع. هكذا تُرسَم معالم الخريطة السّياسيّة الجديدة للشّرق الأوسط. هذا ما استدركته طهران ووسّعت من تدخّل أذرعها في حرب غزّة، لتضربَ من البحر الأحمر نحوَ إيلات المُحتلّة. لم تكن صواريخ الحوثي موجّهة إلى إسرائيل، بل واشنطن في الدّرجة الأولى.
مضمون الرّسالة الإيرانيّة عبر بريد الحوثي: “أنا أستطيع تفجير المنطقة لحماية نفوذي، وإغلاق ممرّات التجارة الدّوليّة، وإمطار أيّ بقعة في الشّرق الأوسط بالصّواريخ والمُسيّرات”.
إلى حين اكتمال خارطة الشّرق الأوسط الجديدة، التتمّة بفوّهات المدافع وهدير الطّائرات ومنصّات الصّواريخ