تطوّران بارزان في ملف رياض سلامة أمس. تمثّل الأول في قرار صدر عن محكمة الاستئناف قضى بقبول طلب الردّ المقدم من حاكم مصرف لبنان ضد القاضي زياد أبو حيدر الذي لم تعد له صلة بالملف. والثاني بدء فريق التحقيق الألماني عمله في قصر العدل تحت إشراف القاضي رجا حاموش منتدباً من النائب العام القاضي غسان عويدات.
لكن الواضح، بحسب جميع المعنيين، أن التحقيقات والخطوات المنتظرة، سواء من النيابة العامة لجهة الادعاء على سلامة أو لا، أو لجهة نتائج المهمة الأوروبية، تجري وسط احتدام الصراع السياسي حول ملف حاكم مصرف لبنان. إذ إن مكوّنات التركيبة السياسية المتمثلة في تحالف الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والبطريرك الماروني بشارة الراعي، إضافة الى جمعية المصارف وغرفة التجارة والصناعة، تستقتل لعدم المسّ برياض سلامة، كل لأسبابه. كما أن كشوفات حسابات سلامة التي تعدّ هدفاً رئيسياً للوفود القضائية الأوروبية، تمثل عنصر قلق لدى أطراف هذا التحالف خشية أن تتضمّن مستندات وأسماء وأرقام حسابات تسمح للجانب الأوروبي، أولاً بتحويل ملف سلامة الى المحاكم وإصدار قرارات إدانة تتيح مصادرة ممتلكات سلامة وشركائه في الخارج من أموال وعقارات، والثاني استخدام الدول الأوروبية، ولا سيما ألمانيا وفرنسا، هذه المعطيات في الضغوط التي تمارس على القوى السياسية لأغراض لا علاقة لها بمكافحة الفساد.
أما التبريرات التي يقدمها كبار المسؤولين ممن لا يريدون التطرق الى فكرة إقالة سلامة فترتكز على أسباب غير منطقية البتّة، كاعتبار الرئيس ميقاتي أنه لا وجود لسلطة تنفيذية قادرة على إقالة الحاكم أو تعيين بديل له، أو إبداء الرئيس بري خشيته من أن رمي كرة النار في حضن النائب الأول للحاكم وسيم منصوري قد يستفزّ المسيحيين، مستنداً إلى ما ينقله مقربون من الكنيسة ورجال أعمال بأن إقالة سلامة ونقل صلاحياته الى نائبه الأول يعنيان عملياً خسارة الموارنة الموقعين الأهم في الدولة، رئاسة الجمهورية التي يتولى رئيس الحكومة «السني» صلاحياته، وحاكمية المصرف التي ستؤول صلاحياتها الى نائب الحاكم الأول «الشيعي».
ومع ضعف هذه الحجج التي تنمّ عن خشية من نتائج محاربة الفساد وتداعياتها على كثير من المواقع، فإن هناك علاجات قانونية يمكنها تهدئة مثل هذه المخاوف، كأن يعيّن القاضي المكلف بالملف حارساً قضائياً على مصرف لبنان، سواء عفواً من تلقاء ذاته للحفاظ على الأدلة الجرمية أو بناءً على طلب الدولة اللبنانية المتضررة الأولى من الجرم، ريثما يصدر قرار بتعيين بديل منه.
المجريات القضائية
في هذه الأثناء، شاءت «الصدفة» أن تقرر محكمة الاستئناف أمس البتّ في طلب سلامة ردّ القاضي أبو حيدر، لكنها لم ترفق قرارها بخطوة تكليف القاضي رجا حاموش تولي الملف لتنفيذ المهمة الموكلة الى النائب العام الاستئنافي في بيروت من قبل النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. والتي تفيد بأن عليه الادعاء على الحاكم وشركائه وإحالتهم مع الأدلة الى قاضي التحقيق الأول في بيروت، وهو أمر قضائي يقتضي تنفيذه دون اعتراض. وبينما تردد أن هناك اجتهاداً قانونياً بأن على رئيس محكمة الاستئناف حبيب رزق الله إرسال الملف الى القاضي حاموش باعتباره الأعلى درجة الذي يتولى تلقائياً المهمة بعد القاضي أبو حيدر، قال مرجع إداري إن الأمر لا يحتاج الى قرار. إذ بمجرد إعفاء نائب عام من مهمة ما، ينتقل الملف حكماً وتلقائياً الى القاضي الأعلى درجة الذي يتوجب عليه تنفيذ قرار النائب العام التمييزي بالادعاء فوراً وإحالة القضية على قاضي التحقيق. والقاضي حاموش هو الأعلى درجة بعد أبو حيدر في النيابة العامة، وملف التحقيق في مكتبه حيث يقوم الوفد الألماني بالاطلاع عليه، وبالتالي يمكنه الادعاء فوراً على سلامة وشركائه وإحالتهم أمام قاضي التحقيق الأول. غير أن أوساط حاموش أشارت إلى أنه سيقرر خطوته بعد تسلمه الملف رسمياً من محكمة الاستئناف مطلع الأسبوع المقبل، علماً أن الملف موجود لديه.
وفي حال الادعاء وإحالة الملف كاملاً الى قاضي التحقيق الأول، يصبح الأخير المرجع الصالح للنظر في تنفيذ طلبات المساعدة القضائية الأجنبية، وله الحق بوقفها أو قبولها أو تأجيل تنفيذها، ريثما ينتهي من درس الملف وقراءة أوراقه والتمعّن فيها، وهي مهمة تحتاج الى وقت لأن الملف يضم أكثر من 11 ألف صفحة. وفي هذه الحالة، تتعطّل مهمة الوفود الأوروبية.
مع ذلك، فإنّ المداولات السياسية التي تطغى على الآليات القانونية لا تشير الى أن الأمر سيكون يسيراً. إذ إن العمل مع الوفود القضائية الأوروبية بدأ من دون انتظار نتائج التطور الأول المتمثل برد القاضي أبو حيدر. وقد باشر الوفد القضائي الألماني المؤلف من مندوبي الادعاء العام في ميونيخ عمله في مكتب حاموش.
وقالت المصادر إن طلب المساعدة القضائية الألمانية تضمّن الحصول على نسخة كاملة من ملف التحقيق لدى النيابة العامة، وهو أمر غير منطقي كون التحقيقات في ألمانيا تركز على عمليات تبييض أموال ظهرت خلال عمليات شراء عقارات، وبالتالي فإن الجانب الألماني يحتاج الى المستندات التي تتعلق بهذا الجانب وليس الى كامل الملف.
وبعد نقاش حول مخاطر تسليم الألمان أو غيرهم كامل الملف من دون ضمان شكل استخدامه، سواء في القضية نفسها أو في ملفات أخرى قد يكون لها طابع سياسي، قرر عويدات إبلاغ الأوروبيين بالسماح لهم بالاطلاع على كامل أوراق الملف، مع حق تسجيل ملاحظات، على أن يعدّوا بناءً على ذلك لائحة بمستندات محددة للحصول على نسخة منها من المرجع القضائي المكلف القضية في لبنان. وبعدما رفض الألمان الاقتراح أول من أمس، تراجعوا أمس وبدأوا بالاطلاع على كامل الملف وإعداد الملاحظات.
وأكدت مصادر معنية أن الجهات الأوروبية تركز عملياً على الأوراق الخاصة بالكشوفات التي تخص حسابات رجا سلامة شقيق الحاكم لمعرفة مسار الأموال التي حوّلت من أوروبا الى لبنان وتبلغ قيمتها نحو 200 مليون دولار وكيفية تسييلها في لبنان.
وإلى هذه المهمة التي تقرر أن تسري على الوفدَين القادمين من اللوكسمبورغ وفرنسا، تبيّن أن الاستماع الى عدد كبير من المطلوبين في الملف يحتاج الى وقت طويل، وهو ما دفع الى تقسيمهم الى دفعتين، يتم الاستماع إليهما أو استجوابهما بواسطة القضاء اللبناني. وأكدت المصادر أن اسم حاكم مصرف لبنان وارد ضمن هؤلاء وأن القانون يتيح له التخلف عن الحضور، علماً أنه لم يصل بعد إلى قرار نهائي في هذا الشأن، في انتظار الاتصالات الهادفة الى توفير ضمانات بأن لا توقفه القاضية غادة عون.
من يضع حدّاً لفلتان السفير الألماني؟
عندما يعتذر رئيس الحكومة من دبلوماسي لأن وزيراً أنّبه على مخالفته، لن يكون مفاجئاً أن يمعن هذا الدبلوماسي في المخالفات غير آبه بأي قوانين أو دساتير.
وإذا كانت ألمانيا تعدّ نفسها دولة تحترم القوانين وأصول العلاقات الدبلوماسية، فهي أبعد ما تكون عن ذلك في لبنان، حيث تمارس أبشع أنواع التدخل والوصاية، مستفيدة من حثالة لبنانية، سياسية وحزبية وإعلامية، ومن حشد من مرتزقة الـ NGOs الذين يبررون للسفير الألماني في بيروت أندرياس كيندل، ولغيره، تدخله في الشؤون اللبنانية.
أول من أمس، وقع خلاف بين الفريق القضائي الألماني والقاضي رجا حاموش المنتدب من النائب العام غسان عويدات لمواكبة الفريق، بعد رفض حاموش طلب الألمان تسليمهم نسخة كاملة عن التحقيقات التي أجراها لبنان في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وقد عبّر الوفد الألماني عن استيائه من الرفض، وغادر قصر العدل.
لكن، بعد انتهاء الدوام الرسمي، فوجئ من بقي من عاملين في قصر العدل وعناصر المخفر التابع له بدخول كيندل الى «العدلية» وتجوّله لبعض الوقت قبل أن يغادر. ولم يُعرف ما إذا كان قد عقد اجتماعات بعيدة عن الأضواء لم يعلن عنها. لكن المؤكد، بحسب مصادر في قصر العدل، أن السفير الألماني تصرّف باعتباره مندوباً سامياً لا يُردّ له طلب.
وهو لم يكن ليمارس هذا النوع من التدخل السافر والسلوك المشين، لولا أنه سبق له أن حصل على حصانة من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، منتصف الشهر الماضي، بعدما استدعى وزير الخارجية عبد الله بوحبيب السفير وأبلغه ملاحظات لبنان على مخالفته قواعد العمل الدبلوماسي في لبنان. يومها، غادر السفير وزارة الخارجية، وراسل حكومته طالباً التدخل، زاعماً أنه تعرض للتهديد من المسؤولين اللبنانيين. فتولّت برلين التواصل مع ميقاتي ومارست ضغوطها، عبر السفير مصطفى أديب، قبل أن يحدد ميقاتي موعداً لكيندل في السرايا الحكومية، ويصدر بياناً بعد الاجتماع أثنى فيه «على الدور النشيط الذي يقوم به وتقديره لشخصه وللجهود التي يبذلها في تنمية العلاقات اللبنانية – الألمانية».
عملياً، ربما بات من الضروري رفع شعار طرد السفير الوقح من لبنان، أو الدعوة الى مواجهته ورفض استقباله شعبياً إذا تعذر ذلك رسمياً. لكن كل ذلك لا يعفي الرئيس ميقاتي من تحمل المسؤولية شخصياً عما قام به هذا السفير، وهو ما يفتح الباب أمام تدخلات يومية أكثر فظاظة للسفارات الغربية في لبنان.