معايير مختلفةً سقطت وقوة الردع تتسع وتكبر

كتب سمير الحسن

تأخرت عملية تحقيق النصر بتحويل الانتصارات إلى استراتيجية بناء بديلة من السائد المتهالك، الذي عفا الزمن عنه. ذلك لأن الأميركي المهيمن على العالم، مع تحالفه الأوروبي والعربي، عاود هجومه التخريبي منعا لتحقيق المحور المقابل أهدافه وغاياته في بناء بديل استراتيجي يخلف نتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية، واللتين أرستا صيغة العالم على ما هي عليه اليوم.

ولابد من العودة في هذا الإطار إلى نقطة تاريخية مفصلية هي انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط العالم تحت التسلط الأميركي، فكانت حروب أفغانستان والعراق التي أفضت إلى هيمنة اميركية شاملة على العالم على المستويات العسكرية، والأقتصادية، والسياسية.

حربا العراق نتج عنهما مقاومة مركزة أفضت إلى اضطرار الأميركي التراجع، واتخاذ قرار بالانسحاب من العراق، وكان العالم ما يزال وحيد القطب، سيدته الولايات المتحدة الأميركية، ورغم ذلك، شهدت هذه السيدة أولى الهزائم.

تكررت المجابهات بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وبين شعوب العالم في غير موقع، فكانت حرب ٢٠٠٦ لضرب المقاومة في لبنان، فانعكست نتائجها على ما كان يخطط الأميركي وتحالفه له، وتلاه انتصار غزة بعد عام. انتصاران تحققا بعد الانتصار العراقي.

لم تعد المجابهات العسكرية المباشرة مجدية أمام “النمر من ورق”، فشهدت الساحات العربية ما عرف بالربيع العربي، الذي يعود بنا بالذاكرة إلى ربيع “براغ” الستينات، ثم ربيعات دول اوروبا الشرقية التي غيرت وجه هذه الدول، واتجاهاتها.

في “الربيع” السوري، تورط الأميركي بصورة غير مباشرة بحرب حشد لها مختلف حلفائه، ومجتمعات العالم ليرفد معركته فيها بالمقاتلين الوافدين مرتزقةً من كل حدب وصوب. لكن في سوريا يتكرر مشهد هزيمة الأميركي مع تغيير جوهري في مسار الأمور حيث دخلت على خط الصراع دول كبرى كروسيا وإيران، ومعهم الصين بطريقة من الطرق، حتى إذا تطور مسار الصراع، وتحقق المزيد من الانتصارات، عاد للعالم نوع من التوازن، وانتهت آحادية القطب، وبدأ التحالف الروسي-الصيني- الإيراني يتجذر، ويقوى فارضا نفسه على خارطة العالم، ومحولا آسيا مساحة جغرافية وبشرية ضخمة، ووصلنا إلى نقطة لم يعد اثنان يختلفان عليها وهي بدء انحسار الدور الأميركي.

مع انحسار الدور الاميركي تتحول كل المحاولات إلى ضجيج إعلامي فقط دون القدرة على تغير الوقائع الميدانية والسياسية.

ما نجح الأميركي به هو إحداث فوضى عارمة في كل المنطقة، ولكن دون افق، مما زاد من صعود المقاومة ومحورها، وتكريس حضوره مما جعل بقية الدول التي راهنت على إحداث تغيير جوهري في المشهد عاجزة عن استعادة المبادرة.

ومن سوريا، تقدمت روسيا إلى العالم، وكسرت الآحادية، كما أن الحضور الإيراني عزز من حضوره، وطور قاعدته اللوجستية لدعم مقاومات فلسطين، والعراق، بينما تراجعت قواعد الارتكاز الأميركية في تركيا كقاعدة انجيرليك بعدما تقلصت خدمات تركيا لأميركا نتيجة التقارب مع روسيا.

أما في العراق، فقد تراجع النفوذ الاميركي، وتحولت كل القواعد العسكرية إلى أهداف مشروعة للحشد الشعبي نتيجة تكريس التوازن المستجد بعدما كانت الأفضلية للأميركي وحده دون منازع.

أما تونس والسودان فقد دخلا مرحلة التفكك، والضعف، والوهن، وهما أمام مخاض طويل، كذلك حال ليبيا التي تحولت إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية وتبخرت آمال أميركا بالسيطرة عليها، وعلى نفطها، وفي الحد الأدنى، بات الروسي شريكا فيه.

اما اليمن فهي الساحة الابرز في المتغيرات القادمة، وعامل إضافي على ازدياد قوة محور المقاومة وحلفائه، وانتقلت اليمن من دولة هامشية إلى دولة محورية، ولم تعد اليمن ملحقاً ضعيفاً فقد انتقل من الخاصرة الرخوة إلى قاعدة ارتكاز، وسيطرة على الحدائق الخلفية لعدة دول خليجية، والأهم السيطرة على المضائق البحرية من خليج العرب حتى البحر الأحمر وباب المندب، وهذا التطور تكلل بالتعاون والتنسيق بما يخدم القضية الفلسطينية.

ارتبطت الساحة اللبنانية بكل هذه التبدلات بشكل مباشر منذ أن لعبت هذه الساحة دورا محوريا في مسارات الصراع، فكان لبنان الساحة اللوجستية للمقاومات، وساهمت بشكل أساسي بإسقاط المؤامرة على سوريا، ومنها تبلورت فكرة وحدة الساحات خاصة بعد معركة “سيف القدس”.

شكل لبنان نقطة ارتكاز وهذا أقلق الامريكان والإسرائيليين على حد سواء، وبدأ العمل على محاصرة لبنان عبر تطويقه وفرض عقوبات على نواب حزب الله امين شري وعلي فياض، وإدراج بنك جمال على لائحة العقوبات.

تدحرجت الهجمة أكثر من خلال وضع أيضا حلفاء المقاومة على لوائح العقوبات، فلم يكن ذلك كافيا، فبدأت التحركات الشعبية تحت عناوين الإصلاح ومحاربة الفساد في حركة ١٧ تشرين كنسخة جديدة من نسخ الربيع العربي، وإطلاق حراكات منظمات المجتمع المدني.

انطلاقا من هنا، دخل لبنان مرحلة جديدة من المواجهة السياسية، وقد تكون الانتخابات محطة فاصلة لإعادة تركيب السلطة، أو، بمعنى ما، رسم الدور الجديد للبنان.

لهذا بدأ يرتفع منسوب التحريض، وخطاب الكراهية ضد المقاومة عبر الاستثمار بمواضع الضعف الاقتصادية، والاجتماعية، و منع المساعدات العربية والغربية من أجل دفع لبنان إلى مزيد من الازمات؛كل تلك المحاولات فشلت ولم تؤدِ إلى نتائج فعلية، لذلك يسعى ما يعرف بالمجتمع الدولي اليوم إلى الفوز بالانتخابات النيابية لإعادة التوازن الداخلي على غرار تجربة ٢٠٠٥.

حتى الآن كل المؤشرات غير مشجعة نتيجة عدم قدرة القوى المحلية من توحيد صفوفها لخوض الانتخابات بلوائح موحدة بالرغم من حملات التضليل المركزة على وجود تراجع لحلفاء المقاومة، وخاصة التيار الوطني الحر، حتى كادت الحملة الإعلامية أن تظهر تراجعا في ساحة محور المقاومة.

ولا يخفى على أحد أن هناك حالة اعتراض كبيرة، وأن كل القوى السياسية تضررت نتيجة الواقع الاقتصادي والمعيشي، فاقمه فساد السلطة الكبير، ولكن من المبكر القول أن هذا التراجع هو لمصلحة خصوم محور المقاومة.

وفي ظل التحركات الجارية على خلفية الانتخابات النيابية اللبنانية، فالمؤشر الأهم هو غياب الحماس لها، كون الحركة الاعتراضية الشعبية موجودة، وربما تكون نسبة الاقتراع هي الاقل في تاريخ لبنان.

أما على صعيد محور المقاومة في الانتخابات النيابية، فيفترض أن تنعكس عليه انتصاراته في الساحات الدولية والاقليمية المختلفة، وفي الحد الأدنى، سنكون أمام استعادة مشهد ٢٠١٨ الانتخابي من حيث حجم الكتل وتشكّل الأكثرية، ذلك لأن استثمار الانتصارات تأخر في سياقات التصعيد الأميركي المستجد، وسيبقى القليل قبل إسكات ضجيج المعركة ما قبل الأخير.

Exit mobile version