كتب نذار نصر في “الأخبار”:
ليس جديداً ربط الجماعات المسلّحة في سوريا بكيان الاحتلال الصهيوني. دائماً ما انتشرت تقارير عن مهادنة الطرفين بعضهما البعض وصولاً إلى التطبيع العلني في بعض الأحيان، وتقارير عن إرسال إرهابيّين، بمن في ذلك أفراد من تنظيم «داعش»، إلى الأراضي المحتلّة لتلقّي العلاج في مستشفيات الكيان. كما صرّح رئيس الأركان في «جيش» الاحتلال السابق غادي آيزنكوت لصحيفة «صنداي تايمز» البريطانية عام 2019 أنّ «إسرائيل» سلّحت «جماعات معارضة في سوريا للدفاع عن النفس، وقامت بآلاف العمليّات في سوريا من دون تبنّي المسؤولية». في بعض الأحيان، كانت هذه الجماعات تنفي ما سبق وتُعيد رمي تهمة التعامل مع العدوّ على النظام السوري، وفي أحيان أخرى كانت تعترف وتجاهر بعمالتها. الأيّام السابقة كانت خير مثال على التصرّف الثاني.
فقد أثار ظهور الناشط السوري عبد الكريم العمر في مقابلة على التلفزيون العبري الرسمي «كان» قبل أيّام استهجاناً واسعاً، ما استدعى العمر الادّعاء بعد المقابلة بأنّه لم يعلم أنّها إسرائيلية، وأنّه تعرّض لخديعة على حدّ تعبيره، زاعماً في منشور عبر صفحته على فايسبوك أنّ «صديقاً تواصل معي للمشاركة على قناة تلفزيونية عربية للحديث عن تطوّرات الشمال السوري، اسمها «القدس 48»»، علماً ألّا قناة تحمل هذا الاسم بتاتاً. على أنّ العمر لم يكن وحده، إذ يظهر «معارضون» سوريّون على الإعلام العبري بشكل متزايد في الآونة الأخيرة، بمن في ذلك أحد المقاتلين المشاركين في السيطرة على حلب، يُدعى سهيل حمّود ويُلقَّب بـ«صيّاد الدبّابات». وخاطب حمّود المستوطنين الإسرائيليّين في تسجيل صوتي، داعياً إيّاهم أن يخشوا «بشّار الأسد وإيران و«حزب الله» وليس نحن، فأنتم تعرفون سلوك إيران وبشّار الأسد الذي يتصرّف بقوّة أشدّ من الإسلاميّين».
من جهة أخرى، نقل بعض الإعلام اللبناني والعربي القضية مع التقليل من شأنها، في محاولة ديماغوجية لاسترضاء مؤيّدي القضية الفلسطينية والجماعات المسلّحة السورية على حدّ سواء، فادّعى أنّ هذه التصرّفات تخدم حجج النظام السوري حول تطبيع «المعارضة» مع العدوّ، وأنّ الجماعات عمّمت على أعضائها عدم التواصل معه!
على أنّ صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» كانت أكثر وضوحاً في توجّه هؤلاء. تحت عنوان «ثوّار سوريا يظهرون وهم ينسبون الفضل في تقدّمهم الصادم إلى الضربات الإسرائيلية على «حزب الله»»، نشرت الصحيفة الصهيونية مقالاً يوم الإثنين الماضي أوردت فيه أنّ «أحد الثوّار السوريّين المنخرطين في تمرّد متجدّد يتحدّى قوّات النظام قال لشبكة إسرائيلية إنّ حملة الجيش الإسرائيلي ضدّ القوات المدعومة من إيران ساعدت مقاتلي المعارضة الذين تمكّنوا من السيطرة على حلب ومناطق أخرى في هجوم خاطف الأسبوع الماضي». وأضاف المقال أنّ «ناشطاً معارضاً من حلب» قال لـ«هيئة البث العام الإسرائيلية» في تصريحات بثّتها الأحد: «لا أحد يعرف ما إذا كانت إيران والنظام قد ضعفا لولا الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، والتي سمحت لنا بالعودة وتحرير الأراضي والبلاد».
وأكمل مقال الصحيفة الصهيونية أنّ «شخصية معارضة أخرى من إدلب تحدّثت إلى الشبكة شكرت القدس (أي «إسرائيل») وقالت إنّ المعارضة راضية جدّاً عن الإجراءات الإسرائيلية ضدّ «حزب الله» وغيره من الجهات المدعومة من إيران». ونقلت الصحيفة عن هذه «الشخصية» قولها «إنّ «حزب الله» ملتزم بشكل معلن بتدمير «إسرائيل». يتّهموننا بالتعاون معكم لأنّنا كنّا سعداء جدّاً عندما هاجمتم «حزب الله»، سعداء حقّاً، ونحن سعداء لأنّكم انتصرتم. نحن نحبّ «إسرائيل» ولم نكن أبداً أعداء لها. «إسرائيل» لا تعادي من لا يعاديها. نحن لا نكرهكم، بل نحبّكم كثيراً». وعلّقت الصحيفة أنّ «المتمردّين ليست لديهم مشكلة مع «إسرائيل»».
كما نقلت الصحيفة ذاتها أنّ رجلاً عُرّف عنه بوصفه قائداً للمتمرّدين قال لـ«القناة 12» الإسرائيلية يوم الأحد أيضاً إنّ «توقيت الهجوم في سوريا لم يكن مصادفة. نظرنا إلى اتّفاق وقف إطلاق النار مع «حزب الله» وفهمنا أنّ هذا الوقت المناسب لتحرير أراضينا. كانت عملية حاسمة. لن نسمح لـ«حزب الله» بالقتال في مناطقنا ولن نسمح للإيرانيّين بالتجذّر فيها». وأضاف «القائد» ذاته بحسب الصحيفة أنّ «الهدف إسقاط نظام الأسد وإقامة حكومة تتمتّع بعلاقات جيدة مع جميع جيرانها، بما في ذلك «إسرائيل». ستكون سوريا دولة قائمة على المساواة والعدالة لجميع المواطنين السوريّين من دون استثناء، حيث سيكون هناك سلام وأمن مع المنطقة بأكملها، بما في ذلك مع «إسرائيل»».
فوق ذلك، نقلت الصحيفة الصهيونية عمّن وصفته بـ«زعيم المعارضة السورية في المنفى» فهد المصري أنّه «دعا الجيش الإسرائيلي إلى دعم هجوم المعارضة». ونقلت عنه قوله: «ندعو القيادة الإسرائيلية إلى شنّ هجمات مكثّفة ضدّ مواقع وقوّات الميليشيات المدعومة من إيران في الأراضي السورية. سيكون ضرورياً ضرب مواقع في حمص ودمشق وعلى الحدود اللبنانية. وسيساعد ذلك على تخليص الأراضي السورية من الوجود اللبناني وأسلحة «حزب الله» ومخالب إيران الأخطبوطية». هكذا إذاً، تتّضح الصورة التي يُراد رسمها للمنطقة الكاملة، ولم تعد «مغبّشة» كما كان الوضع قبل 13 سنة عند اندلاع الحرب على سوريا. فالموضوع لا يتعلّق بالنظام السوري بقدر ما يتعلّق بمشروع «الشرق الأوسط الجديد» الذي تريد عبره الولايات المتّحدة والكيان الصهيوني السيطرة على موارد شعوب المنطقة واستعبادها. أوّل ما يتعلّمه عملاء الاستخبارات الأميركيّين هو أنّ أفضل طريقة للقضاء على عدوّ هي تأليب مكوّناتها بعضها على البعض الآخر. وبما أنّ الغاية تبرّر الوسيلة، فإنّ ما نشهده اليوم حرب إعلامية ضروس توازي الحرب العسكرية وتتماشى مع جهود حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الصهيوني على غزّة.