مشهد استراتيجيّ معقّد.. والمطلوب مبادرة
ناصر قنديل
– كشف طوفان الأقصى أننا دخلنا مرحلة تاريخية شديدة الحساسية والدقة، ذلك أن ما كان يقوله السعي الأميركي والإسرائيلي لسرقة لحظة في غفلة من التاريخ تنتج صيغة تضمن التساكن المديد مع قوى المقاومة، قوات القسام جنوباً وحزب الله شمالاً، من خلال تطبيع سعودي إسرائيلي عنوانه خط الهند التجاري الذي يفترض أن يربط مرفأ حيفا بالإمارات والسعودية وصولاً إلى الهند شرقاً وأوروبا غرباً، واعتبار أن القضية الفلسطينية قد تمّ حلها بدولة معلّبة ومحاصرة في غزة، وحرب مفتوحة في الضفة الغربيّة وتهويد مستمر في القدس، دون اتفاق مع أيّ طرف فلسطيني رسمياً، هو أن الأميركي والإسرائيلي قد دخلا مرحلة العجز عن صناعة الحروب والعجز عن صناعة التسويات، لأن القادر على صناعة الحرب يذهب لإزالة التحدي الذي تمثله المقاومة وصواريخها في غزة وجنوب لبنان بالقوة، والقادر على التسوية يذهب لاتفاق علني تاريخي تشترك في توقيعه القوى الممثلة للشعب الفلسطيني.
– إذا كان هذا هو حال كيان الاحتلال، فإن حال أميركا ليس أفضل. هكذا كان الحال في أفغانستان، حيث كان الانسحاب دون اتفاق أو تسوية، تعبيراً عن العجز عن تسوية والعجز عن الحرب. ثم جاءت حرب أوكرانيا، حيث اميركا لم تتجرأ على الانخراط بحرب تعرف انها مخاطرة فوق طاقتها، ولم تتجرأ أيضاً على الذهاب الى التسوية التي تعبر عن موازين القوى التي أظهرتها الحرب. وفي المواجهة الدائرة في المنطقة لا تجرؤ أميركا على حرب ضد إيران ولا على تسوية معها، ومنذ طوفان الأقصى أميركا صاحب مشروع الحرب الإسرائيلية، لكنها تتحاشى التورط في حرب، وتكتفي بنشاط عسكري محسوب تحت سقف تفادي الحرب أولوية، لكنها لا تأتي الى تسوية ولا تسعى لقيادة تسوية، لأنها تدرك أن ما يقوله قادة الكيان عن أن شروط تسوية تنهي احتلال الضفة الغربية وتفكك مستوطناتها وتوقف تهويد القدس الشرقية وتتنازل عن السعي لضمها، تعني هزيمة لا يتحمل الكيان قدرة التماسك معها، وتدرك واشنطن أكثر أن أي تسوية تقوم على هزيمة للكيان تفتح باب تدحرج المنطقة نحو معادلات تكون الهزيمة من خلالها مؤكدة.
– لقد بلغنا مرحلة بات فيها الخط الفاصل بين التراجع التكتيكي والانكفاء الاستراتيجي مجرد خيط رقيق، ومثله الانخراط في عملية عسكرية تكتيكية والتورط في حرب شاملة، مجرد خيط رقيق أيضاً. وفي مثل هذه الحالات يمكن الحديث عن السيولة التاريخيّة، حيث تُعاد عملية صياغة الخرائط وتولد كيانات وتختفي كيانات، وتندلع حروب لم يقرّر أحد تفجيرها، وتنعقد تحالفات لم تنتجها مفاوضات وخطط. ومثل هذه الحالات تأتي فقط عندما يحل أوان أفول الإمبراطوريات الكبرى التي لم تعُد تحمل قيمة مضافة تقنع الشعوب بالحاجة لها، ولم تعد تملك فائض قوة لحماية مساحتها الإمبراطورية، ولا تكون القوى الجديدة سواء كانت دولاً صاعدة أو مشاريع امبراطورية بديلة او مجرد حركات مقاومة شعبية، قد امتلكت ما يكفي من التشبيك لضم ما تمثل من قيمة مضافة في مشروع عالمي واحد، ولم تراكم من فائض القوة ما يكفي لخوض المنازلة الفاصلة، فتقع الحروب الصغيرة وتتنقل ولا تنتهي، ليس لأن هناك من يملك رؤية لاستثمار استمرارها، بل لأن لا أحد يملك رؤية لإيجاد منطقة وسط بين المتحاربين تتكفّل بإيقافها.
– يتحدّث الإسرائيليون كثيراً عن الحرب الكبرى، ويتحدّث الأميركيون كثيراً عن التسوية الشاملة، لكن لا شيء من الحرب الكبرى والتسوية الشاملة في الأفق، فليس هناك إلا الحروب الصغرى المؤلمة والقاسية، والتسويات غير المعلنة التي تتمّ مثل قواعد الاشتباك بالتغاضي لا بالتراضي، ويبدو أن الطريق الوعر الذي تذهب إليه الأوضاع، يستدعي الخروج منه جواباً استراتيجياً بحجم تعديل في موقف روسيا والصين تجاه حجم الانخراط بقوة في اعتبار مشهد المنطقة مدخلاً إلزامياً لصياغة النظام العالمي الجديد، ومغادرة منطقة الرهان على استنزاف أميركا هنا، والابتعاد عن نظرية المسافة المتوازنة في النظر لكيان الاحتلال، رغم العلم بما يمثل الكيان في الجملة العصبية للهيمنة الأميركية على العالم، والانتباه الى خطأ الرهان على الانتخابات الرئاسية الأميركية، وإدراك أن تفاهماً روسياً صينياً إيرانياً على رؤية جديدة للمنطقة، قادر إذا تجنّدت لحسابه مقدرات القوى الثلاث، يبدأ من تحصين سورية اقتصادياً وتعزيز قدراتها عسكرياً، وإنهاء الاحتلالات على أرضها، يفتح الطريق للتقدم برؤية مرحلية موحدة لحل القضية الفلسطينية، تتسع لاحتواء الخلاف في المقاربات السياسية والمبدئية، قادرة على خلط الأوراق الدولية والإقليمية وصياغة موازين قوى جديدة، ولعل العودة لما فعله الشهيد القائد قاسم سليماني مع الرئيس بوتين قبيل رسم الاتفاق حول كيفية خوض الحرب دفاعاً عن سورية يقدّم مثالاً عما يجب فعله اليوم، ولكن بصورة أوسع وعلى مساحة أكبر، وضمن تفاهمات أعمق.