كتبت جريدة “الأخبار”:
في ظل الواقع الجديد الذي تعيشه سوريا بعد سقوط النظام السابق، وما أنتجه ذلك من فراغ دستوري، وما تبعه من احتكار «هيئة تحرير الشام» بقيادة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) السلطة حتى الآن عبر الحكومة المؤقتة التي تتولى تسيير شؤون البلاد حتى مطلع شهر آذار المقبل، والضبابية التي تتسم بها المرحلة الانتقالية لبناء سوريا الجديدة، يعود شبح مشروع التقسيم ليطلّ برأسه من جديد. وتتعزز المخاوف من هذا المشروع في ظل تعدد الأطماع في مقدّرات الشعب السوري وثرواته، وأبرزها الأطماع الإسرائيلية التي تجلّت ميدانياً منذ اليوم الأول لسقوط النظام.
وبالفعل، بات مشروع التقسيم القديم – الجديد، والذي يقتضي تحويل سوريا إلى دويلات وتفتيتها إلى كيانات طائفية وعرقية، يأخذ حيّزاً كبيراً من التداول، فيما يستلزم إبعاده، بالضرورة، إطلاق حوار سوري – سوري يقدّم المصلحة الوطنية على ما عداها. وعادت خارطة التقسيم لتُنشر في الفضاء العام، وهي تشمل فدراليات «دمشق – حلب – المنطقة الساحلية – إدلب وحماة – حمص ومناطق البادية السورية – المنطقة الجنوبية ممثّلة بدرعا والسويداء»، إلى جانب المنطقة الشرقية التي يجري تقسيمها إلى جزءين: «الأول يُحكم من قبل إدارة سنية، والثاني يكون تحت حكم مشترك بين مكوّنات محافظة الحسكة من الكرد والعرب وبقية الأقليات».
يستلزم إبعاد مشروع التقسيم، بالضرورة، إطلاق حوار سوري – سوري يقدّم المصلحة الوطنية على ما عداها
والواقع أن بعض المطالب التقسيمية يجري الدفع بها تحت مسمّى «اللامركزية الإدارية»، والذي تريد بعض الأطراف تضمينه في الدستور القادم. وبموجب عدد من الطروحات القائمة على فكرة الفدرلة، تُترك دمشق عاصمة للبلاد تحت حكم سلطة اتحادية لا يمكنها المساس بالقرارات المحلية لكل إقليم وهويته، في حين تكون حلب إقليماً تجارياً مفتوحاً. كما أن إقليم «إدلب – حماة» يكون ذا طابع أُحادي، فيما إقليم حمص بوصفه عقدة مواصلات الطرق التجارية الأساسية في سوريا والقريبة من الحدود مع لبنان، يكون إقليماً متعدداً ذا صبغة مدنية. وأما إقليم الجنوب المرسوم لدرعا والسويداء، فيطغى عليه النفوذ الأردني بحكم العلاقات المجتمعية بين طائفتي السنّة والدروز في كلا البلدين.
وبالانتقال إلى دير الزور والرقة، فالحديث يدور عن إقليم ذي طابع عشائري، فيما «إقليم الحسكة» يكون محكوماً بشكل مشترك من قبل مكوّناته وتحت إشراف القوات الأميركية التي ستبقى المسيطر على الحدود الشرقية للبلاد بما يضمن عدم اجتيازها من قبل فصائل المقاومة العراقية، لأي سبب كان، ويمنع دخول السلاح من العراق إلى سوريا ومن ثمّ إلى لبنان. ووفقاً للمعطيات، ثمة استدامة للسيطرة الأميركية على الحقول النفطية شرق الفرات، فيما تبدو القنيطرة وبقية المناطق القريبة من الشريط العازل مهدّدة باحتلال مستدام من قبل العدو الإسرائيلي.
وعلى رغم أن تلك المشاريع لا تزال كلامية، إلا أن بعض الخطوات والإجراءات على الأرض تبدو مساوقة لها بشكل أو بآخر. فعلى سبيل المثال، جاء تحرك الفصائل المسلحة في مدينة السويداء للسيطرة عليها، بتوجيه مباشر من رئيس «الطائفة الروحية للموحّدين الدروز»، الشيخ حكمت الهجري، الذي كان قد أصدر بياناً يدعم فيه الحراك المسلح، وذلك «إثر تلقيه اتصالاً هاتفياً من نظيره في الأراضي الفلسطينية المحتلة موفق طريف». وفي الوقت نفسه، تلقّت الفصائل المحلية «توجيهات مباشرة من قبل ضباط في قاعدة الاحتلال الأميركي في التنف بالتحرك، بما يضمن عدم تحرك «هيئة تحرير الشام»، إلى داخل السويداء، ذات الغالبية الدرزية».
وعلى خط مواز، تحركت «قوات سورية الديمقراطية» (قسد) في اتجاه مناطق غرب الفرات، وكذلك في اتجاه دير الزور للتعويض عن انسحاب القوات السورية، والذي أثار مخاوف من تمدد تنظيم «داعش». إلا أن الأمر لم يدم طويلاً، حتى تمددت قوات «تحرير الشام» نحو دير الزور، وأخرجت «قسد» منها نحو شرق الفرات، في حين أن الهجوم على مدينة منبج، كان هدفه حصر وجود «قسد» في مناطق شرق الفرات، حتى البدء بالمرحلة الثانية من العمليات ضدها. وفي هذا السياق، تشير مصادر كردية إلى أن «هناك مخاوف من حصر حدود عمل «الإدارة الذاتية» بمحافظة الحسكة التي يتواجد فيها المكوّن الكردي، وإجبار «قسد» على الانسحاب من مناطق محافظة الرقة ودير الزور لعدم وجود هذا المكوّن فيها، وبالتالي ستكون حقول النفط الأساسية في دير الزور (كونيكو – العمر – التنف)، بيد الحكومة المؤقتة».
من جهته، يشير مصدر معارض قريب من «الائتلاف»، إلى أن كتابة الدستور، بما في ذلك بنوده المرتبطة بشكل الدولة والحكم، باتت مسألة معقّدة؛ ففيما ترفض حكومة الجولاني وجود «الائتلاف» كمؤسسة سياسية في سوريا، لكنها لا تمنع دخول قياداته بصفتهم الشخصية، الأمر الذي ينبئ بوجود نوايا للاستفراد بكتابة الدستور، خصوصاً في ظل الممارسات التي تقوم بها حكومة الجولاني، مخالفة مهامها في «تسيير الأعمال» فقط. ويضيف المصدر أن الجولاني «يحاول حالياً إقناع الدول التي تتواصل معه بكتابة دستور يجعل من سوريا دولة واحدة تقوم على حكم مركزي بصلاحيات أوسع للمحافظين، الأمر الذي يثير خشية من نشوء نظام يشبه السابق من حيث التحكم بموارد الدولة وحياتها السياسية والتعليمية، فضلاً عن الخشية من أسلمة البلاد لدى التيارات المدنية والقوى السياسية الأخرى».