“الأخبار”: نقولا ناصيف
في مخايل ضاهر، الذي رحل الثلاثاء الماضي، تتقاطع مفارقات الرئاسة اللبنانية، الممزوجة بالمصادفات والوقائع المتدرّجة والحظوظ، لكن أيضاً بالأدوار والاجتهاد. تصل إلى خواتيمها المفرحة، لكنها تصل إلى الخذلان. جرّب معظمها في مسار طويل نائباً بين عامي 1972 و2005 ما خلا انتخابات 1996، ووزيراً مرة واحدة عام 1992
الأبقى في تجربة مخايل ضاهر انضمامه إلى رعيل مفارقات الرئاسة اللبنانية: أن ينام رئيساً للجمهورية ولا يُنتخب في الغداة كحال كميل شمعون عام 1943 وحميد فرنجية عام 1952 وعبد العزيز شهاب عام 1964. أن يكون ثالث مرشح ثنائية أميركية – عربية أخفقت فيما الأوليان نجحتا مع فؤاد شهاب عام 1958 والياس سركيس عام 1976. أن يفتتح سابقة درجت، بتفاوت، في ما بعد بأن يكون الماروني الأول المرشح للرئاسة ترفضه طائفته بدءاً برئيس الجمهورية مروراً بالكنيسة المارونية وانتهاءً بأحزابها. أن يكون الأول يجتذب سوريا إلى التفكير في رئيس من الأطراف يكون أقرب إلى دمشق منه إلى قصر بعبدا، قبل أن تثمر التجربة التالية مع الياس هراوي. أن يكون فوق ذلك كله الذي ينصاع الأميركيون للموافقة عليه مرشحاً وحيداً للرئاسة دونما أن يعرفوه خلافاً لأسلافه المتعاقبين.
29 أيار 2014: الصورة الوحيدة التي جمعت مخايل ضاهر بريتشارد مورفي
لعلّ المصادفة المعبّرة أن يلتقي به مَن حمل اسمه من دمشق إلى قصر بعبدا وبكركي، الموفد الأميركي ريتشارد مورفي، مرتين في مناسبتين متباعدتين. أولى عابرة بدا أن ريتشارد مورفي لم ينتبه إلى مَن تعرّف إليه للتوّ ولم يتذكر الاسم الذي حمّله إياه عبد الحليم خدام بعد 18 ساعة منهكة في دمشق. ذهب إليها ومعه لائحة من أربعة أسماء لم يكن بينها مخايل ضاهر. أُقفل باب التفاوض عندما طوى الرئيس السوري اللائحة قائلاً إن ثمة اسماً آخر مرشحاً وحيداً.
أول لقاء بين مخايل ضاهر وريتشارد مورفي عام 1993 في بيروت. صدف أن التقى نائب عكار في مطعم بناية «صوفيل» في الأشرفية حيث مكتبه نسيب لحود يرافقه شخص طويل القامة. دنا منه نائب المتن قائلاً: «معي ضيف. من المؤكد أنك تعرفه؟».
تصافحا دونما أن يعرف أحدهما الآخر.
قال نسيب لحود: «ريتشارد مورفي. ألا تعرفه».
كلاهما ردا سلباً.
نظر نسيب لحود من ثم إلى ضيفه قائلاً: «مخايل ضاهر».
ردّ فعل المسؤول الأميركي المتقاعد منذ عام 1989: «هذا أنت!».
اللقاء الثاني في 29 أيار 2014 كان أطول قليلاً تبادلا خلاله كلمات مجاملة، وكلاهما نسيا ما عبر قبل ثلاثة عقود. جمعهما السفير السابق في واشنطن عبدالله بوحبيب في احتفال تدشين «معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية» في الجامعة الأميركية في بيروت. حضر ريتشارد مورفي بصفته عضواً في مجلس الأمناء، فيما حضر مخايل ضاهر بدعوة من عصام فارس.
عندما سأل عبدالله بوحبيب ريتشارد مورفي هل التقى قبلاً مخايل ضاهر ردّ بالنفي. سأله ما إذا كان يرغب في لقائه؟ فردّ بالترحيب، إذَّاك التُقطت الصورة الوحيدة لهما.
تمسّك سوريا به مرشحاً وحيداً للرئاسة عام 1988 أقلق المسيحيين والموارنة خصوصاً، فعارضوه واضطرّ إلى المكوث في القبيات يقود من هناك مواجهة مع رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية ميشال عون. في ما بعد أضحى طبيعياً ومألوفاً أن يُصغى إلى زعماء وقادة مسيحيين وموارنة يتلون فعل الندامة: انتخابه كان جنّبهم الاقتتال الضاري واتفاق الطائف.
طبع الذعر ترشيح مخايل ضاهر الذي لم يمسِ صديقاً لسوريا إلا متأخراً. مبعث الذعر كان ريتشارد مورفي عندما نبّه رافضي التسوية المبرمة بينه وبين حافظ الأسد – البعض عدّه تحذيراً وآخر تهديداً – إلى احتمال نشوب «فوضى» إذا أُهدرت. كان التنبيه كذلك أول علامة تنبئ بأن الرئاسة اللبنانية للمرة الأولى في المهبّ وقد تكون على طريق الاضمحلال. ذلك ما سيتحقق مع أول شغور لها، بلا رئيس، منتصف ليل 22 أيلول 1988.
في وقت متأخر شرح ريتشارد مورفي ما عنته «الفوضى» وتخييره اللبنانيين بينها وبين نائب عكار. حلّ ضيفاً على «مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية» بدعوة من بوحبيب، في 12 حزيران 2013، قائلاً: «كان الأميركيون ينظرون إلى الوضع عامَي 1986 و1987 ويرون ضرورة إجراء الانتخابات في ظل الدستور في أيلول 1988. ماذا كان سيحصل؟ من البساطة الافتراض أن رئاسة الجمهورية هي المؤسسة السياسية الوحيدة العاملة. لم يشكل ذلك قلقاً للسوريين وتميّز موقفهم بالازدراء بالساسة اللبنانيين عموماً. لم يكترثوا لإجراء الانتخابات أو عدمها. كانوا مسرورين بزيارات كثيرين من المرشحين آتين من بيروت، أراد كل منهم أن يشرح لهم كيف يسعه أن يكون أفضل مرشح. كانوا يختبرونهم ويغربلونهم. هناك مؤسسة يجب المحافظة عليها ودعمها إن أمكن. حجّة لم تلقَ أصداء في دمشق. ناقشناها في زيارات عدة. تقدّمت أسماء كثيرة لم أكن على دراية بها، لكنها أسماء قادة أظهروا أنهم مرشحون جديون للمنصب. إلا أن دمشق أدارت ظهرها لهم، ولم تكن مهتمة بأيّ منهم. أخيراً وصلت الرسالة: إذا كانت الانتخابات ستحصل، يجب أن يكون هناك مرشح واحد. إلا أن منطق المرشح الواحد لم يتفق مع النموذج اللبناني. على كل حال كان اسم مخايل ضاهر الوحيد الذي ظهر. لم أكن قد التقيت به، واجتمعت به للمرة الأولى لاحقاً بعد حوالى خمس سنوات. كنت خارج الحكومة ولم يكن قد انتُخب رئيساً للبنان. الملاحظة التي يُزعَم أنني قلتها، ولا أذكر أنني قمت بذلك، أنه إما ضاهر أو الفوضى، بدت مثيرة للشفقة لأنكم مررتم بعامين إضافيين من الفوضى. قال تلك الجملة مسؤول في السفارة دانيال سمبسون في ملخّصه، بينما كان يدوّن الوقائع خلال الاجتماعات».
لم يمس ضاهر صديقاً لسوريا إلا متأخراً وانصاع الأميركيون للموافقة عليه مرشحاً من دون أن يعرفوه
نُظِر إلى مخايل ضاهر على أنه «المرشح السوري». تجربة سيختبرها جدياً وطويلاً اللبنانيون بعد اتفاق الطائف ويئنّون منها ويتكبّدون وزرها.
في ما مضى كان على طرف نقيض من دمشق: رفض في 8 أيار 1976 حضور جلسة انتخاب مرشحها الياس سركيس مفضّلاً عليه ريمون إده. انضم إلى «جبهة الاتحاد الوطني» في 11 تموز 1976 التي طالبت بخروج الجيش السوري من الأراضي اللبنانية التي اجتاحها في 31 أيار مع صائب سلام ورشيد كرامي (قبل أن يغادرها بعد حين) ورشيد الصلح وتقي الدين الصلح (وإن امتنع عن توقيع العريضة) وأحمد الداعوق وريمون إده وألبير منصور إلى آخرين. سرعان ما تراجع عن هذا الموقف بعد تشريع الوجود السوري في قمتي الرياض والقاهرة أواخر ذلك العام. أيّد انتخاب بشير الجميل عام 1982 رغم طلب سوريا وسليمان فرنجية منه عدم التصويت له، إلا أن جوابه أنه لا يقترع له بل للحؤول دون الشغور الرئاسي. حضر توقيع الاتفاق الثلاثي في 28 كانون الأول 1985. دعم انتخاباً لم يحصل لسليمان فرنجية في 18 آب 1988.