كتبت زكية الديراني في “الأخبار”:
لعلّ المشهد الذي سيظل محفوراً في أذهان اللبنانيين لمسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» الشهيد محمد عفيف النابلسي (1959-2024) هو المؤتمر الصحافي الذي أقامه وسط الدمار والحطام في قلب ضاحية بيروت الجنوبية، متحدّياً الغطرسة والعنجهية الإسرائيلية، ومعلناً أنّ «حزب الله هو أمّة والأمة لا تموت». لقد كان متيقّناً بأنّ اغتياله مسألة وقت، لكنّ وقوفه وسط هذا الدمار كان رسالة بليغة للعدو بأنّ مقاومة يستشهد فيها قادتها لا يمكن أن تُهزم وأنّ «هذا الطريق سنكمله، ولو قُتلنا جميعاً». هكذا، انضمّ الصحافي اللبناني أول من أمس إلى قافلة الشهداء أثناء تواجده في منطقة رأس النبع في بيروت، وووري الثرى أمس في باحة «مجمع الزهراء» في صيدا، إلى جانب والده العلّامة الراحل الشيخ عفيف النابلسي.
ولد محمد عفيف النابلسي في بلدة البيسارية في قضاء صيدا، وانتقل مع عائلته إلى النجف في العراق في سبعينيات القرن الماضي. تنقل بين النجف وبغداد حيث أكمل تحصيله العلمي الثانوي. وفي أواخر السبعينيات، سافر إلى الرياض حيث درس وتخرج عام 1981 حاملاً شهادة في هندسة الميكانيك. لكن عفيف كان يهوى اللغة العربية ويتمتّع بالموهبة الصحافية وكان صاحب لهجة خطابية بارعة. عاد إلى لبنان لاحقاً، وكان من مؤسّسي قناة «المنار» في تسعينيات القرن الماضي، حيث عمل مديراً للأخبار والبرامج السياسية. وفي حرب تموز 2006، ترك بصمته على الخطة الإعلامية لتغطية الحرب التي شنها العدو الإسرائيلي على لبنان. أدار دفة الحرب الإعلامية، وكان آخر الصحافيين الذين غادروا مبنى «المنار» بعد تعرضها للاستهداف بصواريخ العدو. يومها، نجا مع مجموعة من أصدقائه، واحتفل مع زملائه بنصر تموز، قبل أن يصبح لاحقاً مستشاراً للأمين العام للحزب الشهيد السيد نصر الله، وتبوأ منصب مسؤول العلاقات العامة منذ عام 2014 حتى لحظة استشهاده.
ووري الثرى أمس في باحة «مجمع الزهراء» إلى جانب والده العلّامة الراحل الشيخ عفيف النابلسي
كان عفيف معروفاً بعلاقاته الوطيدة مع الصحافيين من مختلف الأطياف والانتماءات السياسية، وإنساناً منفتحاً يناقش القضايا السياسية بكل رحابة صدر، فشكّل مروحة علاقات إعلامية كبيرة للحزب بدت واضحة عبر التغريدات التأبينية له عبر صفحات السوشال ميديا.
لكنّ نجم محمد عفيف سطع في الحرب التي يشنها العدو الإسرائيلي منذ نحو شهرين. كان يوجه الكاميرات إلى ضاحية بيروت الجنوبية، حيث كان يطلّ وسط الركام والدمار ويعقد المؤتمرات الصحافية. كان يجلس تحت شمس الضاحية، غير آبه بطيران التجسس الإسرائيلي أو الطيران الحربي الذي لم يغب عن سماء الضاحية. لقد كان عفيف ترسانة إعلامية تصدّت للبروباغندا وللحرب النفسية التي شنّها العدو على المجتمع اللبناني بتواطؤ من بعض الإعلام المحلي والعربي المتصهين ومؤازرته. وكما كان في الميدان، كذلك اشتغل على تكوين كوادر إعلامية مقاوِمة، إذ خرّج عدداً من الأجيال الإعلامية في «المنار»، وكان ماهراً في تمييز المواهب الإعلامية. يصفه أحد زملائه بأنه «كان يتنفس الإعلام، ويختار المميزين بين المتقدمين للعمل في «المنار». وكان يعطي الفرصة لمن يستحقها، ويعلّمه كيفية الوثوق بالكاميرا والأداء الإعلامي. كان مقرّباً من الجميع، وبمنزلة الأب لجيل كامل من الصحافيين، وكان أسد الميدان في الحرب والسلم». ويؤكد المقربون منه على أنّ «الشهيد كان يتابع عمله حتى اللحظات الأخيرة قبل استشهاده. ورغم تهديدات العدو وبعض المطبّعين المحرضين عليه والحملات التي شنّت عليه قبل أيام فقط من اغتياله، ظلّ يتابع عمله بشكل طبيعي، متحلّياً بالشجاعة والإيمان والإصرار على إيصال صوت المقاومة. وضع نفسه في خدمة المقاومة الإعلامية» حتى الاستشهاد.