محكمة التاريخ من اوكرانيا الى فلسطين

رفعت ابراهيم البدوي

تسارع الخطوات الروسية الرادعة لانضمام حكومة كييڤ إلى حلف الناتو، تؤتي أكلها وبشكل مدروس وممنهج، والظاهر بأن يوم 24 شباط الذي جرى فيه إطلاق العنان للصواريخ الروسية، وتوجيهها نحو أهداف منتقاة بدقة لضرب البنى العسكرية للقوات الأوكرانية، هو يوم سيسجله التاريخ، لأن الحدث بحد ذاته من شأنه تغيير وجه أوروبا بل العالم، وتظهير مفاعيله سيستغرق سنوات أو عقوداً بأكملها.

نستطيع القول إن الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين، قرر مغادرة مضمار الحلول الدبلوماسية، بعد استنفاده لكل الوسائل للحصول على ضمانات أو للوصول إلى تفاهم مع أميركا وأوروبا، يراعي الأمن القومي والإستراتيجي لروسيا الاتحادية.

محاولات بوتين مع أميركا وأوروبا لدرء الخطر ومنع حصول مواجهة قد تفرض عليه، كلها باءت بالفشل، وبعد التسويف الأميركي ومياعة وتبعية الأوروبي، وجد بوتين نفسه مضطراً لخوض تلك المواجهة مترافقة مع تحذير شديد اللهجة، لكل من تسول له نفسه أن يقف عائقاً في طريق أهداف روسيا، بأنه سيواجه بعواقب لم يواجهها من قبل في تاريخه.

مَنْ أحسن تفسير خطاب بوتين الموجه للشعب الروسي في ٢٠ شباط الماضي أدرك بأن الرجل قدم عرضاً تاريخياً مسهباً ومرافعة قانونية اعتبرت بمنزلة محكمة تاريخية تضمنت مضبطة اتهام مثبتة بالأدلة والبراهين عن الخطر المحدق بالأمن القومي الروسي بسبب الممارسات والنيات الأميركية الغربية تجاه بلاده.

خطاب الرئيس الروسي نزع كل الأقنعة وأسهم بتعرية الموقف الأميركي العدائي لروسيا والممتد منذ أكثر من نصف قرن وخصوصاً لجهة المكوث بالوعود الأميركية المتكررة والتي قطعها وزير خارجية أميركا الأسبق جيمس بيكر للجانب الروسي بأن حلف الناتو لن يتوسع إنشاً واحداً نحو روسيا، وعلى هذا الأساس تمت الموافقة الروسية على حل حلف وارسو وتوحيد الألمانيتين، كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي أي في عهد الرئيس السوفييتي الأسبق ميخائيل غورباتشوڤ ومن بعده بوريس يلتسن.

وهنا لا بد لي من اقتطاع الجزء الأهم مما ورد في خطاب الرئيس الروسي نظراً للأهمية وللدلالة على الدوافع التي دعت بوتين لاتخاذ قرار المواجهة مع أميركا والغرب ومما قاله بوتين:

كما أن بوتين تعمد الإقدام على انتقاد الأخطاء التي ارتكبت في الحقبة الشيوعية في عملية نقد ذاتي بناء، وفي خطابه أجرى مجموعة واسعة من التقييمات التاريخية منذ تأسيس أوكرانيا مروراً بانهيار الاتحاد السوفييتي، وصولاً إلى الوضع الحالي في أوكرانيا والنزاعات القائمة في دونباس، موجهاً كلامه للرأي العام معلناً قراره التاريخي الاعتراف بالأنظمة الانفصالية شرق أوكرانيا.

في محكمة بوتين ظهر جلياً تناقض موقف أميركا وازدواجية المعايير فيها حيث إن التهديدات الأميركية لروسيا وصلت حد وضع صواريخ الناتو في أوكرانيا التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الاتحاد السوفييتي لا بل تعتبر عاصمته ومسقط رأس نيكيتا خروتشيف الذي حكم الاتحاد السوفييتي.

الأزمة التي تواجه روسيا بوتين مع أوكرانيا هي نفسها التي واجهت أميركا جون كنيدي في عام 1961 حين نصب الاتحاد السوفييتي صواريخه في كوبا رداً على نصب أميركا صواريخها في تركيا، الأمر الذي أدى إلى نشوب أزمة كادت تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة قبل وصول القنوات الخلفية إلى تسوية أفضت إلى تفكيك كل من صواريخ الاتحاد السوفييتي من كوبا مقابل سحب صواريخ أميركا من تركيا.

مما لا شك فيه أن الدول الكبرى لا تهادن ولا تساوم على أمنها القومي والإستراتيجيات، وما ترفضه روسيا الاتحادية من تحويل أوكرانيا إلى دولة عدائية لروسيا تهدد أمنها، سبق لأميركا جون كنيدي ورفضته وهددت حينها بغزو كوبا منعاً لتهديد أمنها القومي من خلال ما عرف بأزمة خليج الخنازير، وبالعودة للتاريخ نرى أن ما رفضته ولم تقبل به أميركا في ستينيات القرن الماضي، تراها اليوم تقوم بتتفيذه وتعيد الكرة مرة أخرى مع تبدل أسماء الدول من كوبا إلى أوكرانيا مهددة بذلك أمن روسيا الاتحادية.

إذاً فلاديمير بوتين قرر مواجهة أميركا بايدن والغرب في أوكرانيا دفاعاً عن أمن روسيا مهما كلف الأمر وحتى النهاية، وفي خطوة تاريخية من شأنها القضاء على أحادية القطب والسماح بتعدد الأقطاب في العالم وخصوصاً بعد ظهور الحلف الروسي الصيني ومن خلفهما إيران الطامحة إلى دخول نادي الدول النووية السلمية.

دعوة بوتين بوضع قوات الردع الإستراتيجي في حالة تأهب قصوى، تعني بأن روسيا بوتين ماضية في حربها على حكومة كييڤ الموالية لحلف الناتو، وبأن روسيا لن تسمح بقيام دولة على حدود روسيا مطابقة للمواصفات الوظيفية للكيان الصهيوني المعادي والمزعزع لأمن دول منطقتنا العربية، وأيضاً لإفهام أميركا والغرب بأن روسيا ذاهبة نحو حسم أهدافها السياسية والعسكرية في أوكرانيا مهما كانت العواقب، وأنها لن تسمح بتوريطها بحرب تستنزف قدراتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية على المدى المتوسط، كما هو حاصل على الساحة السورية، حيث تعيش سورية حالة لا سلم ولا حرب بانتظار قرار محكمة التاريخ في روسيا.

في حربها على حكومة الناتو في كييڤ، نجحت روسيا وخلال وقت قصير جداً في تدمير البنى العسكرية الأوكرانية والبريطانية التابعة للناتو على بحر أزوڤ، واكتفت بمحاصرة المدن الرئيسية وإغلاق منافذ البحر الأسود في أوديسا.
الصين أبدت تأييدها لقرار بوتين، وإيران الغارقة في مفاوضات فيينا، أيضاً قالت إن خطوة روسيا نتيجة طبيعية لممارسات أميركا والغرب الاستفزازية ضد روسيا، وسورية التي زارها وزير الدفاع الروسي، أيدت خطوة بوتين، ومن هنا يتضح لنا موقع سورية الأسد كحليف إستراتيجي وأهميته لروسيا.

الرئيس بشار الأسد وفي اتصال تأييد ودعم للرئيس بوتين قال: إن خطوة روسيا تجاه أوكرانيا ليست دفاعاً عن روسيا فقط بل دفاع عن العالم وعن القيم الوطنية، واصفاً الخطوة الروسية بأنها تصحيح للتاريخ.

تعلمنا من محكمة التاريخ بأنها لا تنطق بأحكام غير منصفة ومهما حاولت أميركا والغرب، تزوير مسار التاريخ لابد من محكمة تاريخية تستكمل تصحيح التزوير الحاصل، ليس في أوكرانيا فقط، إنما في فلسطين والجولان ولواء إسكندرون ولبنان.

بانتظار النطق بحكم محكمة التاريخ في أوكرانيا، وجب علينا انتهاز الفرصة لتصحيح التاريخ المزور في فلسطين وفي منطقتنا العربية.

Exit mobile version