كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
على وقع مجموعة السيناريوهات المتداولة من أجل مقاربة الاستحقاق الرئاسي، يحاذر الديبلوماسيون والسياسيون التوغل في كثير من التفاصيل، انتظاراً لمعرفة مصير الأفكار المطروحة للنفاذ بـ “عملية تسلّل” إلى القصر الجمهوري لإنهاء الفراغ الرئاسي. وهي عملية يمكن ان تَنفَذ من “خروم الشبك” الرفيعة، في ظل موازين القوى الدقيقة التي تتحكّم بالمعادلة النيابية السلبية وشبيهتها من ضمن أطراف الخماسية. وعليه ما هي مؤشراتها والحظوظ؟
ترغب مراجع سياسية ونيابية محايدة مطلعة أن ترى أنّ هناك إمكانية للنفاذ بانتخاب رئيس للجمهورية في لحظة ما، على رغم من مجموعة المؤشرات التي تعزز الشكوك باستحالة بلوغ هذه اللحظة. ذلك انّها على اقتناع بأنّ أصحاب النيات الحسنة يواجهون كل ما يؤدي الى الاستمرار في حال الشلل والانهيارات المتتالية، والتي تتجلّى يومياً بمجموعة الأزمات المتناسلة على اكثر من مستوى، إلى درجة تنوعت فيها الاهتمامات بين اللبنانيين بنحو مخيف. فهم باتوا يعيشون في “ولايات لبنانية غير متحدة”، اختلفت فيها أولويات العيش والهموم في ما بينهم. فما يعيشه الجنوبيون من لحظات الخطر على حياتهم وممتلكاتهم لا ينطبق على أهالي مناطق مختلفة غارقة في البحث عن لقمة عيش، ومنهم موظفو القطاع العام من عسكريين ومدنيين، ينافسهم النزوح السوري في بيئات عدة، عدا عن نسبة الفقر المتزايدة نتيجة فقدان فرص العمل وغلاء الأسعار الذي مسّ لقمة الخبز وقطرة الماء وحبة الدواء بعد الكهرباء.
ليس في ما سبق مجرد رسم تشبيهي لمشهد سوريالي يعكس حجم انهيار الدولة ومؤسساتها، وفقدان الحكم الرشيد، في ظل سلطة لا يتورع من يتولّى زمامها من خوض النزاع والسباق اليومي على الصلاحيات بغية تناتشها، حيث ما استطاع إليها سبيلاً. وهو ما تترجمه التفاهمات التي يمكن ان تُعقد على القطعة بين لحظة وأخرى، وتكوين أكثريات وزارية ونيابية مختلفة على “القطعة” و”الملف”، تجمع الحلفاء والخصوم، ما عدا تلك المطلوبة لانتخاب الرئيس. لكن ذلك لم يحل دون إطلاق ورشة ديبلوماسية وسياسية تسعى الى إنهاء فترة خلو سدّة الرئاسة من شاغلها بعد فترة من الركود تجاوزت خمسة عشر شهراً على آخر جلسة نيابية خُصّصت لانتخاب الرئيس في 14 حزيران 2023، قبل ان ينسى النواب انّ هناك واجباً دستورياً عليهم إنجازه قبل القيام بأي عمل آخر، حسب ما يقول الدستور في مواده 73 و74 و75. هذا إن بقي هناك من يفتح صفحاته لمراجعتها وإنعاش الذاكرة بضرورة العمل على هديها وتنفيذ الوكالة المعطاة لهم في آخر انتخابات نيابية أُجريت في 15 أيار 2022.
وانطلاقاً مما تقدّم، يختلف المراقبون الديبلوماسيون والسياسيون على تحديد أولويات الأسباب الموجبة التي أحيت الحديث عن ضرورة انتخاب الرئيس، فالاقتناع اقترب من ان يكون شاملاً بأنّ الحديث عنها قبل وقف النار في غزة أمر مستحيل. لكن بعضهم ربط هذه اليقظة بالمبادرة السنوية التي واظب رئيس مجلس النواب نبيه بري على إطلاقها لعامين، في الذكرى الـ45 لتغييب الامام موسى الصدر العام الماضي، وجدّدها هذه السنة بتعديلات محدودة لم تغيّر في جذب ردات الفعل التي يرغب بها. فيما دفعت الاستحقاقات الدستورية والعسكرية والقضائية والادارية التي اقتربت مواعيدها، لتفرض بحثاً عن رأس السلطة الإجرائية الذي يتسبب غيابه بمزيد من الارتكابات الدستورية والمخالفات المتوقعة. ففي تشرين الاول المقبل يدخل مجلس القضاء الأعلى مدار الشلل، ومطلع السنة الجديدة بعشرة ايام يستجد استحقاق إحالة قائد الجيش العماد جوزف عون الى التقاعد، بعد التمديد سنة له وللقادة الأمنيين، وبعده تنتهي ولاية المدير العام للأمن العام بالإنابة اللواء الياس البيسري ويليه في حزيران المقبل نهاية ولاية المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان أيضاً. هذا عدا عن عدم اكتمال فصول تعيين اللواء حسان عودة في شباط الماضي رئيساً لأركان الجيش المفقود مرسوم تعيينه حتى اليوم. وكل ذلك يجري في ظل خروج المجلس العسكري عن صلاحياته بعد انتهاء ولاية معظم أعضائه وطعن مجلس شورى الدولة بالتمديد لبعضهم.
وإن كانت كل هذه الأسباب كافية للإسراع في التفاهم على انتخاب الرئيس، فإنّ هناك اسباباً اخرى يعود بعضها الى انعدام اي ردّ فعل ايجابي على لبنان نتيجة التفاهم السعودي ـ الإيراني. ثم جاءت عملية “طوفان الأقصى” وانخرط بعض اللبنانيين في حرب “الإلهاء والإسناد” لتزيد في الطين بلّة وتزيد من الانهيار القائم. في وقت هناك من يخشى بأنّ عدم انتخاب الرئيس اللبناني في الفترة الفاصلة عن انتخاب الرئيس الاميركي قد يطول إلى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، والتي دونها مطبات كبيرة، أبرزها الحديث عن المخاوف الناجمة عن النية بتعديل قانون الانتخاب، كوسيلة قد تؤدي الى التمديد لمجلس نيابي عجز عن القيام بأبسط مسؤولياته الاصلاحية ووضع خطة التعافي والإنقاذ المطلوبة لمعالجة المآزق الاقتصادية والمالية والنقدية. فليس مضموناً انّ حكم الديموقراطيين سيستمر في البيت الابيض، وانّ عودة الجمهوريين اليه تفترض فترة انتظار طويلة لتكوين ادارتهم ورسم سياساتهم الخارجية. وإن انتهت الحرب في غزة والجنوب، سيكون لبنان في حاجة الى رئيس لتكريس اي تفاهم او اتفاقية ما زالت آلية البت بها رهن الصلاحيات اللصيقة به، والتي لا يمكن تجييرها إلى اي شخص أو مؤسسة أخرى.
لكل هذه الأسباب وغيرها، لم يرصد المراقبون اي خطوة جدّية بعد، حتى الحديث عن لقاء سفراء المجموعة الخماسية اليوم. اذ ليس محسوماً إن كان السفير السعودي وليد البخاري ما زال في بلاده ام عاد الى لبنان، عدا عن فقدان اي مؤشر يتحدث عن تفاهم بين اعضائها على صيغة ما يمكن ان تستدرج الكتل النيابية الى التوافق على آلية لانتخاب الرئيس. فالمواقف السلبية على حالها، ولم يطرأ اي جديد. فكيف إن كانت هناك قوى لا ترى موجباً ملحّاً لوجوده، طالما انّ الوقت يسمح لها بإمرار ما يمكن إمراره من دون اي رقابة او مشاركة او مزاحمة احد، وخصوصاً إن كان في موقع رئيس الدولة المؤتمن بالسهر على تطبيق الدستور. فوحده من يقسم اليمين الدستورية، وهو المكلّف تنظيم العلاقة بين السلطات والمؤسسات كافة.
ويبقى أنّ ما يجري تجاوز ما يمكن ان يتصوره أحد في تركيبة دولة، ليعزز الاقتناع بوجود ما يشبه الولايات اللبنانية غير المتحدة، والتي لا تبشّر بإمكان نجاح أي “عملية تسلل” خارجية او داخلية، ديبلوماسية كانت ام سياسية، من أجل تكوين اكثرية نيابية لانتخاب الرئيس. فدونها عقبات كبيرة، ومحاولات التوصل الى مرشح توافقي بدلاً من اي “مرشح تحدّي” “حلم” بعيد المنال، والتوفيق بين الكتل النيابية المسيحية “نزوة” تساوي استحالة تفكيك “الثنائي الشيعي” وإقناعه بالتنازل عن شروطه في ظل “التشتت السنّي” وفقدان “المكوّن الدرزي” دور “بيضة القبّان” لانتخاب الرئيس. فالطريق إليه مليئة بالألغام على أنواعها، ومنها “القنابل العنقودية” التي تتوزع شظاياها متى انفجرت على ملفات ومساحات واسعة، وهو ما يعيشه اللبنانيون من نماذج العجز والفشل في إدارة الدولة.