الاخبار الرئيسيةالصحافة اليوممقالات

مجازر سوريا ومخاطر لبنان

مجازر سوريا ومخاطر لبنان

كتب جوني منير في “الجمهورية”:

مروعة كانت صور المجازر التي حصلت في مناطق الساحل السوري. وأياً كانت الأعذار فما من شيء قادر على تبرير سفك الدماء في الشكل الذي حصل، خصوصاً أنّه طاول عزّلاً ومدنيين ووفق الإنتماء الطائفي.

هو تطهير عرقي حصل وسط أجواء «احتفالية» وتباهٍ وزهو وفق ما أظهرته المشاهد التي صورها الجناة أنفسهم.

وكان جلياً أنّ ردّ الإدارة السورية الجديدة على الإنتفاضة التي حصلت ضدّها في مناطق الساحل السوري إنما حصل وفق أسلوب «القاعدة» أو «النصرة» لا وفق أسلوب السلطات الرسمية التي تتولّى شؤون البلد عادة، وما عزز هذا الإعتقاد مشاركة العديد من العناصر الأجنبية والتي تربطها بالمجموعات السورية الإيديولوجيا التكفيرية والعنفية. وجاء الصمت الرسمي الذي ساد لساعات طويلة بمثابة غض النظر قبل أن يُعلن مساء الجمعة عن حدوث ما اعتبرته السلطة السورية تجاوزات. إلّا أنّ البعض قرأ في خلفيات ما أرادته هذه السلطة توجيه إشارات ثلاث:

ـ الإشارة الأولى، إنّ الإدارة السورية الجديدة لا تحتمل أي نوع من أنواع الشغب عليها. فهي لا تزال طرية العود، ما يدفعها إلى التعامل بإسلوب عنيف لحماية استمراريتها ومنع تجدد أعمال مشابهة، خصوصاً أنّ الطائفة العلوية تحتفظ بأوراق قوة كونها حكمت البلاد لأكثر من 50 سنة، إضافة إلى انتشارها في مواقع جغرافية حساسة.

– الإشارة الثانية، إلى المجموعات السورية الأخرى والتي كانت باشرت خلال الأسابيع الماضية خطوات الابتعاد عن سلطة دمشق. والمقصود هنا خصوصاً الدروز والأكراد. وبالتالي فإنّ التحرّك الدموي والعنيف وحصول المجازر قد يكون هَدَف إلى توجيه رسالة رعب إلى هذه المكونات لمنعها من التمادي في مشروع خروجها عن سلطة دمشق. ويمكن تفسير الحجم الضخم للقوات التي دُفع بها إلى المنطقة بمثابة رسالة قوة للمناطق الأخرى لكي لا تتسع دائرة الإحتجاجات. لكن الشواهد التاريخية تشير في العادة إلى أنّ هذه المجموعات سيرتفع منسوب قلقها وخوفها، وستندفع أكثر في اتجاه التمسك بالحماية الخارجية وتعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية.

– أما الإشارة الثالثة، فكانت في اتجاه إيران التي طاولتها الإتهامات بتدبير وترتيب ما حصل. فالتحرك العسكري الذي حصل بدا منظّماً والتحركات جاءت وفق خطة موضوعة طاولت نقاطاً محدّدة بدقّة وعناية. واستبق التحرك الذي حصل مواقف عدة ممهدة. فمرشد الثورة علي خامنئي والذي لم يستطع حتى الآن تقبّل خسارة سوريا بسبب أهميتها الفائقة في مشروع تكريس النفوذ الإيراني في المنطقة، كان توقّع سابقاً أن يشهد المستقبل ظهور مجموعات «شريفة وقوية في سوريا». وقبل أيام معدودة قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، إنّ من يعتقدون حالياً بتحقيق انتصارات مؤكّدة في سوريا لا ينبغي لهم أن يفرحوا قبل الأوان. أما مستشار المرشد علي أكبر ولايتي فتوقع قبل يومين فقط احتمال اندلاع حرب أهلية في سوريا في أي لحظة. كما أنّ بعض المجموعات التابعة لـ»الحشد الشعبي» في العراق لم تخف موقفها الداعم للتحركات المناهضة للإدارة السورية مثل تصريح قيس الخزعلي زعيم «عصائب أهل الحق».

وثمة جانب آخر لا بدّ الإشارة إليه وهو الموقف التركي المنزعج من إيران. ويمكن في هذا الإطار إدراج كلام وزير الخارجية حقّان فيدان حين أبدى قبل يومين احتجاجه على النشاط الإيراني. وهو ما يدفع إلى الإستنتاج بأنّ الإستخبارات التركية كانت تشعر بالترتيبات الجارية، ولو أنّها كانت لا تملك بعض التفاصيل الميدانية.

وقد يكون الاقتناع بوجود بصمات إيرانية خلف ما حصل هو الذي دفع بالدول الخليجية الى إعلان دعمها لسلطة الشرع، أو ما يعني ضمناً شجب ومعارضة أي نيّة إيرانية للعودة إلى سوريا، وأيضاً هو ما يفسّر سكوت العالم عن هول المجازر، وغياب منظمات حقوق الإنسان، في اعتبار أنّ الأولوية هي لعدم كسر المعادلة التي قامت في سوريا بعيداً عن إيران.

صحيح أنّ «الإنتفاضة» التي حصلت فشلت فشلاً ذريعاً وأتت بنتائج كارثية، إلّا أنّه لا بدّ من توقع استمرار حرب العصابات في الجبال والتضاريس الجغرافية الصعبة إلى ما شاء الله. وصحيح أنّ واقعاً كهذا لن يبدّل في المعادلة القائمة، خصوصاً أنّ الخسائر البشرية لا تشكّل في هذه الحالة عاملاً سلبياً ضاغطاً، إلّا أنّه سيترك فجوات أمنية قائمة وقابلة للتمدّد في ظروف مختلفة مستقبلاً. وفي الوقت نفسه بدأت أصوات تعلو داخل الطائفة العلوية وتطالب بإبعاد التأثير الإيراني عبر آل الأسد عن الطائفة بسبب المخاطر الوجودية التي باتت تطاولها. ويأتي في هذا السياق كلام رامي مخلوف.

لكن السؤال الأهم يبقى حول أسباب توقيت العملية في هذا الظرف بالذات؟

من الواضح أنّ إدارة دونالد ترامب تتقدّم في اتجاه فرض اتفاق نهائي مع طهران التي خسرت عدداً من أوراق قوتها الإقليمية وباتت في موقع أكثر ضعفاً، ما يضعها في موقف تفاوضي صعب. وبالتالي فإنّ إعادة إظهار بعض أوراق القوة يكون هو المطلوب الآن وبإلحاح. وخلال الأيام الماضية باشرت طهران بنفض الرموز المرنة عنها واستبدالها بخطابات متشدّدة. وهكذا أُلزِم محمد جواد ظريف بالإستقالة، وهو الرمز الداعي إلى التفاوض مع الأميركيين، وأُقيل معه وزير الإقتصاد والمال، في ضربة للرئيس الإيراني أيضاً. وأرفق خامنئي ذلك برفضه التفاوض مع إدارة ترامب.

في المقابل، شعر الرئيس الأميركي بأنّ الظرف يُلزمه بالتحرك الآن في اتجاه «إنجاز المهمّة» مع إيران. فمن جهة هنالك تفاهمات عريضة مع روسيا تمتد من أوروبا إلى الشرق الأوسط، وموسكو قادرة على المساعدة الفعّالة مع إيران، ومن جهة أخرى هنالك «حشرة» ترامب في معاركه الداخلية، ولا سيما منها موضوع رفع التعريفات الجمركية مع كندا والمكسيك، والتي يبدو أنّها تتأرجح وتتبدّل وكأنّها لم تحظ بالدرس الوافي. وبالتالي يصبح توقيت فتح ملف إيران مؤاتياً لا بل مطلوباً.

وفي كلامه لشبكة «فوكس نيوز» تحدث ترامب بشيء من التحذير: «آمل أن تتفاوضوا لأنّ الأمر سيكون أفضل بكثير بالنسبة لإيران». لكن الكلام الأهم هو الذي قاله لاحقاً أمام الصحافيين في البيت الأبيض، وهو حمل تهديداً مبطناً عندما قال: «لدينا أيام مثيرة مقبلة، وسيحدث شيئاً قريباً، ولقد دخلنا في المرحلة الأخيرة». وتابع ترامب: «أفضّل اتفاق السلام على الخيار الآخر، لكن الخيار الآخر سيحل المشكلة أيضاً». وترامب يتحدث هنا عن خيارين جاهزين أمامه على الطاولة.

في إيران هنالك من يراهن على أنّ كلام الرئيس الأميركي إنما يدخل في إطار اللعبة الدعائية والإعلامية لا المشروع القابل للتنفيذ. وأنّ الموقف الروسي ومصلحته يصبحان في هذه الحالة عامل فرملة لأي خطوة مجنونة من ترامب.

وكان لافتاً جداً ما كتبه خامنئي عبر منصة «إكس» حيث اعتبر أنّ التفاوض بالنسبة للدول المتغطرسة وسيلة لطرح مطالب جديدة، وهذه المطالب لن تلبيها إيران قطعاً. وأورد خامنئي بعض عناوين هذه المطالب الجديدة عندما كتب قائلاً: «يطرحون مطالب جديدة تتعلق بالقدرات الدفاعية للبلاد وقدراتها الدولية: لا تفعلوا كذا، ولا تلتقوا فلاناً، ولا تذهبوا إلى المكان الفلاني، ولا تنتجوا كذا، وأن لا يتجاوز مدى صواريخكم الحدّ الفلاني». وختم خامنئي متسائلاً: «هل يمكن لأحد أن يقبل بهذه الشروط؟».

ومن عبارات خامنئي يمكن الإستنتاج أنّ المطالب الأميركية تتجاوز الملف النووي لتصل إلى موضوع الصواريخ البالستية والفرط صوتية البعيدة المدى، وأيضاً وقف النشاط الإيراني غرباً، أي في اتجاه البحر المتوسط وما بات يُعرف ببلدان «الهلال الشيعي».

وقريباً جداً ستتوقف واشنطن عن منح العراق الإستثناء من أن تطاولها العقوبات لقيامها بشراء الطاقة من إيران. ومنذ أيام أمر ترامب بإدخال حاملة الطائرات «هاري ترومان» مع مجموعتها إلى منطقة البحر الأحمر، والمعروف عنها بأنّها واحدة من أضخم المجموعات البحرية الحربية الأميركية. ويعتقد بعض المراقبين أنّها المرّة الأولى التي يذهب فيها ترامب إلى هذا المستوى من التهديد ضدّ إيران وهو ما يفترض أخذه على محمل الجدّ.

وسط هذا التشابك المعقّد جاءت «انتفاضة» العلويين في الساحل السوري، والتي أدّت إلى نتائج كارثية. وترافق ذلك مع رفع مستوى الغارات والإستهدافات الإسرائيلية ضدّ «حزب الله» في جنوب لبنان، مع تهديدات باحتمال استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت مجدداً. ووفق التطورات الجديدة يصبح لبنان مطوقاً بالنار مرّة في الجنوب ومرّات أخرى مع حدوده الشمالية الملاصقة للساحل السوري وحدوده الشرقية حيث التماس المباشر بين العمق الشيعي والقوات السورية التي اشتبكت معها مرّات عدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى