ليس لديكم في ذمّتي شيء!

الجولة الأخيرة من الانتخابات الرئاسية في لبنان، كان لها ما سبقها من جولات تصفية للمرشحين. وإذا كانت القوى السياسية تتصارع الآن في القول، إن هذا كان أقوى من ذاك، أو إن دور فلان تجاوز دور منافسه، فإن حقيقة ما حصل، تنسف كل السرديات التي يمكن إيرادها في رواية ما حصل.

بداية، كان قائد الجيش مرشحاً جدياً للمحور الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية والسعودية. ربما كان هناك مرشحون آخرون في جيب هاتين العاصمتين. لكنّ هذه البدائل، كانت متوافرة قبل الحرب الواسعة بين لبنان وإسرائيل. أمّا بعد الحرب، فقد تبدّلت أمور كثيرة، وصار بإمكان واشنطن والرياض الادّعاء، بأنهما تقدران على حصر كل المطالب بشخص واحد.

أولى نتائج الحرب مع العدو، كانت في خسارة المقاومة وحلفائها المرشح المنضوي في المحور. وهذا ما عرفه سليمان فرنجية باكراً، ولذلك، كان مستعداً منذ وقت للخروج من السباق، لكنه كان يناقش في ما إذا كان الحلفاء يقدرون على تحصيل أثمان مقابل انسحابه. وعندما أيقن بأن الأمر غير متاح، أبلغ فرنجية حزب الله وحركة أمل بأنه لم يعد معنياً بالمعركة، وأنه مضطر هو الآخر إلى ترتيب أموره، ويجد أنه من غير المنطقي لتياره أن يكون في حالة صراع مع العهد الجديد، ولذلك قرّر الوقوف إلى جانب العماد عون.

بعد خروج فرنجية، حاول الفريق الداعم للمقاومة الوصول إلى تسوية، تتيح إيصال مرشح ليس محسوباً على المحورين، وأنه كما تمّ سحب فرنجية، فإن على تحالف السعودية مع أميركا أن يسحب مرشحه قائد الجيش. وأن يتاح للقوى السياسية الإتيان باسم لا يشكّل تحدياً لأحد، أو لا يمكن أن يُحسب على هذا الفريق دون الآخر. واستندت محاولة الثنائي إلى تفاهم مع التيار الوطني الحر، برعاية قطر التي تصوّرت أنها قادرة على تدبير الأمر. لكن ما إن أبلغ الأميركيون والسعوديون الأطراف اللبنانية كافة، بأنهم ينظرون إلى البيسري كمرشح خاضع لحزب الله، خرج الرجل من السباق. ثم تولّى جبران باسيل بنفسه إخراجه، من خلال معادلة تقول، إن الرئيس التوافقي لا يمكن أن يمثّل تحدياً للمسيحيين ولا للمسلمين ولا للقوى العربية والدولية.

وبناءً عليه، وجد الجميع أنفسهم في مواجهة اللاخيار. حتى فريق «القوات اللبنانية» ومعه عدد لا بأس به من المستقلين أو التغييريين بالإضافة إلى حزب الكتائب، كل هؤلاء كانوا يفضّلون خياراً غير العماد عون، وحاولوا صياغة تسوية في ما بينهم أولاً، أو مع الثنائي أمل وحزب الله ثانياً، لكنّ لائحة الأسماء لم تكن محل توافق جدّي، بل على العكس، بدا أن الخلاف كبير جداً، إلى حدّ أنه يصعب على الثنائي طرح اسم يقبل به حلفاء «القوات»، كما كان صعباً على «القوات» أن تعرض اسماً لا يمكن للثنائي أن يرفضه، وكانت النتيجة، أن خرجوا من المعركة الأولى خاسرين.

حتى هذه اللحظة، لم يكن قائد الجيش يحتاج إلى كل هذه القوى السياسية في معركته. كان واثقاً من أن وصوله إلى بعبدا، يبقى رهن من رشّحه ودعمه. ومن دون لفّ أو دوران، كان الرجل يتّكل فقط على ما تقوم به الولايات المتحدة والسعودية، قبل أن يتبلّغ أن الفرنسيين ساروا في الاتفاق، وأن موقف مصر وقطر لن يُترجم عقبة في وجهه، بل إن الدوحة بادرت إلى سحب دعمها للبيسري. وعندما استسلم الجميع للقرار الأميركي – السعودي بانتخاب عون، صار لزاماً على الأخير، القيام بخطوات بروتوكولية أكثر منها عملانية، مثل الاجتماع مع هذه الجهة أو تلك، أو عقد لقاء مع هذه الشخصية أو تلك. لكن في المحصّلة، لم يكن لدى جوزيف عون ما يقوله لكل من اجتمع بهم في الأيام الأخيرة.

وربما كان لطيفاً بأنه لم يصارحهم، بأنه مضطر إلى الاجتماع بهم، وأنهم مضطرون إلى التصويت له… ولا حاجة إلى كلام منمّق أو شعارات وعناوين كبيرة.
في النهاية، يمكن للعماد عون أن يتصرّف بطريقة لا تجعله مقيّداً بصورة مسبقة من القوى السياسية الكبيرة. فهو يقدر على مخاطبة الجميع، من حزب الله إلى الكتائب و«القوات» مروراً بنبيه بري ووليد جنبلاط، والنواب التغييريين وبقية الذين صوّتوا له في جلسة الخميس، بأنه جاء رغماً عنهم، علماً، أنه لا يتصرف باكتراث مع الذين عارضوه جهاراً نهاراً، مثل كتلة التيار الوطني الحر وبعض النواب المستقلّين.

صحيح أن بمقدور جوزيف عون مخاطبة الجميع بأنه ليس مَديناً لأيّ منهم بشيء. لكن مشكلته ستبدأ مع أول اجتماع يعقده الإثنين مع النواب مستمعاً إلى مرشحهم لرئاسة الحكومة، حيث سيكتشف أنه محكوم بتحالفات تستند إلى طبيعة سياسية وطائفية لبنانية، تبقى مع الأسف أقوى من أي موقع في هذه الجمهورية، وعندها ستبدأ رحلتنا مع نسخة جديدة من جوزيف عون.

 

Exit mobile version