الاخبار- رلى ابراهيم
بشكل انتقائي سارع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى اختيار مسألة واحدة من مضمون التقرير الجنائي، وشكّل لجنة لدراسة تعديلات على قانون النقد والتسليف، عقدت جلستها الأولى أمس، وضمّت: الوزير السابق إبراهيم نجار، الوزير السابق شكيب قرطباوي، المحامي نصري دياب، المسؤول في بنك عودة حسن صالح، الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان عبد الحفيظ منصور، والنائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسان عياش. كما حضر الاجتماع وزيرا المال يوسف الخليل، والعدل هنري الخوري.
التدقيق في هُويات وتوجّهات غالبية أعضاء اللجنة يقود إلى فهم سبب «لهفة» ميقاتي لتعديل القانون. فالمحامي نصري دياب ليس سوى محامٍ لجمعية المصارف، وحسن صالح هو أحد المسؤولين في بنك عودة المقرّبين من رئيس مجلس النواب نبيه بري، في حين أن مكتب شكيب قرطباوي يضمّ عدداً من المصارف وهو ناشط في جمعية المصارف، والوزير إبراهيم نجار هو أحد المدافعين الشرسين عن المصارف. أما عبد الحفيظ منصور فليس سوى رجل الحريرية الذي انتقل لاحقاً إلى كنف رياض سلامة، وطيلة ولايته كأمين عام لهيئة التحقيق لم يرَ أو يسمع شيئاً.
استهلّ ميقاتي الجلسة بالقول إن اختيار الأعضاء جاء بناءً على «الكفاءة»، إنما يصدف أن معظمهم مرتبطون بعلاقة مع مصرف أو مجموعات مصرفية، وأن كل واحداً منهم يمثّل طائفة معينة. كذلك قال ميقاتي إنه لا يريد من أعضاء اللجنة الاقتراب من «الجزء الخاص بتنظيم المصارف»، والتركيز على القسم المتعلق بتنظيم مصرف لبنان وهيكليته، وإنه يريد «تعديلات من دون الانقلاب على القانون».
في الأصل، مضى على تأسيس مصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف في أول آب 1963 نحو 60 عاماً. في ذلك الوقت، أُعطي المصرف استقلالية مالية وإدارية، ومُنح حاكمه صلاحيات واسعة استخدمها الحكام المتعاقبون وآخرهم سلامة الذي أحكم قبضته على سوق القطع، وتفرّد بالسياسة النقدية، وأخضع كل هيئات المصرف ومؤسّساته من هيئة التحقيق الخاصة إلى هيئة الأسواق المالية ورئاسة الهيئة المصرفية العليا، فضلاً عن التحكّم شبه المباشر بعمل لجنة الرقابة على المصارف. لذلك، تمكّن سلامة طيلة ثلاثين عاماً من إدارة هذه الهيئات كما يشاء لتكون حديقته الخلفية التي يرمي فيها كل تجاوزاته وتجاوزات المصارف مقابل حماية مصالحهما المشتركة. ولهذا السبب كان تعديل قانون النقد والتسليف أحد مطالب صندوق النقد، إذ أبلغ رئيس بعثة الصندوق ارنستو راميريز المسؤولين الذين التقاهم سابقاً بضرورة منح الهيئات استقلالية عن مصرف لبنان وخلق مجلس إدارة للمصرف يكون أعلى رتبة من الحاكم ونوابه الذين يتحولون إلى ما يشبه الهيئة التنفيذية، بينما يقوم المجلس بالإشراف على عملهم. لكنّ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أراد إضفاء تعديلات وفق قاموسه الخاص وبالأدوات التي يراها مناسبة لإبقاء مصلحة المصارف فوق كل اعتبار رغم كل ما ارتكبته هذه المصارف بحق المودعين، بالتعاون مع سلامة.
وفي هذا الصدد، يشير أحد القانونيين إلى أن من انتقاهم ميقاتي هم ضالعون في التشريع والقانون بمعزل عن الخيارات السياسية والتوجهات «لكن من يكتب القانون سيضع الصيغة التي تلائم توجهاته. وإذا أردنا الحديث بشكل منطقي، يفترض أن تُدار اللجنة بآلية تشاركية، أي أن تضمّ أفراداً ذوي مقاربات متناقضة حول دور مصرف لبنان والحوكمة فيه. عندها يمكن الحصول على تنوع في الآراء لتعديل قانون النقد والتسليف الذي كان محورياً في إدخال لبنان في الأزمة». ويلفت قانوني آخر، إلى أن ميقاتي قرّر تعديل القانون وكأنّه المشكلة في ما جرى من تجاوزات ومخالفات «من دون أي مراجعة للخسائر وتوزيعها، ومن دون أن يلتفت إلى تخاذل أعضاء المجلس المركزي ومفوّض الحكومة ووزراء المال المتعاقبين». ويسأل: «لماذا قرّر اختزال أمر جوهري بأشخاص ذوي توجّه مصرفي واضح، وهو ما يجعلنا واثقين من أن أيّ تعديل سيكون منحازاً إلى مصلحة المصارف».
التاريخ يعيد نفسه: دولة المصارف
ستون عاماً مضت على إقرار قانون النقد والتسليف من دون أن يتبدّل أي شيء في السياسة المتحكّمة بالتشريع، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه وكأنّ نفوذ المصارف لا يزال على حاله، ومصالحها تتحكم بكل القوانين وتعديلاتها. ففي أواخر عام 1962 دعا مجلسُ النقد والتسليف، جمعيّةَ مصارف لبنان إلى التعقيب على مشروع قانون النقد والتسليف. بحسب الباحث هشام صفي الدين، فقد عارضت الجمعية ممثّلة برئيسها بيار إدّه، تنظيم أي جهة حكوميّة لمهنة العمل المصرفيّ، بما فيها المصرف المركزيّ، وعبّرت عن ذلك في رسائل إلى رئيس الحكومة الراحل رشيد كرامي. ويضيف صفي الدين: «قالوا إن المصرف المركزي، يجب ألا يكون مصرف المصارف، بل مصرفاً لإصدار العملة فقط. ونجحت الجمعية في إلغاء بنود تنص على التصنيف الإلزامي للمصارف بناءً على سياساتها الائتمانية، وحقّقت انتصاراً لناحية فرض مسألة عدم إعطاء أي بيانات للمصرف المركزي تؤدّي إلى خرق السرية المصرفية». واتُّفق على ترتيب يسمح للمصارف أن تخلق حسابات للزبائن بأرقام، ومُنِع مفتّشو المصرف المركزيّ من الحصول على معلومات المصارف إلا من خلال مديريها، وعبر استمارات موحّدة. كذلك مُنع المفتشون من حق طلب أسماء الزبائن في ميزان حساباتهم، إلا إذا كان الميزان هو ميزان تسليف. وكان يجب أيضاً على موظّفي المصرف المركزيّ أن يُقسِموا على السريّة، في ما يخص المعلومات عن الداتا المجمّعة للمؤسسات المصرفيّة، لا لزبائنها فقط. وشُدِّدَت عقوبات الموظفين الذين ينتهكون السريّة المصرفيّة، عمّا كانت في قانون السريّة المصرفيّة عام 1956».