لبنان والحدث السوري: أسئلة حول المقاومة والاقتصاد والاجتماع والحرّيات

كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:

لنبدأ من الجانب المهني. اليوم، يفترض أن تكون سوريا قد فتحت أمام مشهد إعلامي جديد. طبعاً، سيستغرق الأمر وقتاً قبل أن تسقط قوانين الرقابة. هذا إذا لم يلجأ الحكم الجديد الى فرض قواعد جديدة، على غرار ما كان يقوم به الحكم السابق، كأن يسمح لمؤيديه بالعمل ويمنع النقاش على معارضيه، سواء كانوا سوريين أو غير سوريين. لكن، مع كل القيود التي تظهر على شكل مخاوف عند سوريين بالتحدث عما يجري، فإن الحدث السوري كان وسيبقى حدثاً لبنانياً بامتياز.

دعونا من احتفالات النصر التي يتقنها «الكسالى البلهاء» الذين كانوا ينتظرون من إسرائيل أن تجهز على حزب الله وتسلّمهم البلاد، وانتظروا حتى يقوم آخرون بالانقلاب في سوريا، مفترضين أن لهم موقعهم في قلب المشهد السوري، علماً أنهم يعرفون أن أقصى ما يمكن أن يحصلوا عليه هو ما تقرّره القوى الدولية التي تسعى الى الإمساك بسوريا، من دون إغفال حقيقة أن غالبية لبنانية تتصرف على أساس المتغيّر الكبير الذي حصل، وهي غالبية فيها تنوع سياسي وطائفي ونفعي أيضاً. لكن، يوجد بين اللبنانيين أيضاً من هو خائف أن تذهب الشام نحو الفوضى غير الخلّاقة.

لنبدأ من أهل الحكم في لبنان. المجلس النيابي لم يقل كلمة حول ما حصل. وحكومة تصريف الأعمال تلتزم الصمت أيضاً. وحدها القوى الأمنية والعسكرية تبحث عن شريك لم تجده بعد على الجهة المقابلة من الحدود. وحتى اللحظة، لا يملك أيّ جهاز أمني أو عسكري لبناني صورة كافية عما يحصل. فالمعابر الحدودية خلت من العناصر السورية، ولم يعد بإمكان الأمن العام اللبناني العثور على ختم مغادرة على أوراق أيّ سوري قادم الى لبنان، ولا أحد يمكنه تدوين أرقام رسمية حول القادمين أو المغادرين، لأن الحدود اللبنانية – السورية من الجانب الشرقي سائبة. وإذا كانت هذه هي هواجس الأيام الأولى، فإن «اليوم التالي» سورياً، هو في حقيقة الأمر «يوم تالٍ» لبناني. ولهذا، يفترض مراقبة الأمور وفق أولويات حقيقية:
أولاً: ما حصل في سوريا مثّل تحدّياً مركزياً أمام المقاومة وحزب الله، كون الحكم الجديد في سوريا معادياً بكل أطيافه للحزب، وفيه مجموعات مسلحة تريد الانتقام من الحزب لوقوفه الى جانب النظام السابق في الحرب الأهلية السورية. لكن الأخطر هو أن هناك تياراً قوياً، داخل الحكم الجديد، لا يبدو أنه معنيٌّ أصلاً بفكرة المقاومة، وهو ما بدأ يرشح من العائدين الى دمشق ممّن يتحدثون اليوم عن «الحياد» إزاء ملف الصراع العربي – الإسرائيلي، ويعتقدون بأن الأولوية الآن هي لإعادة بناء سوريا، وأن الحرب مع إسرائيل غير ممكنة.

وهؤلاء لا يبادرون حتى الى إطلاق موقف من العدوان الإسرائيلي المفتوح ضدّ بلادهم. بينما يبشّرنا «ليبراليّو» سوريا الجدد بمرحلة «تطبيع بارد». ورغم أنهم لا يتحدثون عن إقامة علاقات مع إسرائيل، إلا أنهم يتحدثون عن خطوات عملية من جانب الحكم الجديد تمنع وجود أي مقاومة قائمة أو محتملة ضد إسرائيل انطلاقاً من الأراضي السورية. وأول المؤشرات على هذه الوجهة تمثّل في القرار الذي أبلغته هيئة تحرير الشام الى ممثلي الفصائل الفلسطينية الموجودة في سوريا، بأنه لن يكون هناك بعد الآن أيّ وجود لسلاح أو معسكرات تدريب أو مقارّ عسكرية للفصائل الفلسطينية، وأن على الفصائل حلّ تشكيلاتها العسكرية في أسرع وقت، مقابل العمل السياسي والخيري تحت سقف الدولة السورية الجديدة. والنتيجة العملية لهذه الخطوة هي أنه يمنع على الفلسطينيين استخدام سوريا كمقرّ أو ممرّ لأيّ نشاط ضد العدو الإسرائيلي. وهي خطوة ستكون لها تتمّتها في لبنان قريباً، حيث سيتم إخراج مشروع إنهاء المخيمات الفلسطينية من الأدراج، تمهيداً ليس لحلّ القوى العسكرية، بل لتوطينهم في لبنان.

ثانياً: يعيش في لبنان عدد كبير جداً من السوريين، بعضهم من نخب هربت في زمن الانقلابات. ومع حكم البعث، تضاعف عدد السوريين في لبنان حتى استقر خلال حقبة 1990 – 2011 على ما يقرب من نصف مليون سوري، معظمهم من العمال. وبعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، استقدم هؤلاء العمال عائلاتهم، قبل أن يتضاعف العدد ليزيد على مليون ونصف مليون سوري، يعيشون في منازل ومزارع وبيوت في كل لبنان. وبينهم مئات الآلاف ممن اضطرّوا إلى السكن في مخيّمات وفّرت الحدّ الأدنى من شروط الإيواء. ومع قيام منظومة مصالح بين مؤسسات لبنانية وسورية وعربية ودولية باسم مساعدة النازحين، كان لبنان يدخل في انقسام كبير حول طريقة التعامل مع النازحين. وبعدما هدأت المعارك في سوريا، وصار بالإمكان الحديث عن مناطق آمنة في سوريا، استفحل الجدال حول النازحين، لكن لبنان لم يُجِد التعامل مع القرار السياسي العربي والدولي باستخدام ملف النازحين، علماً أن النظام السابق لم يظهر حماسة لإعادتهم، حيث لا مكان متوفّرٌ للإقامة ولا أسواق مفتوحة للعمل.

وبعد سقوط حكم الأسد، سقط الاعتبار السياسي والأمني، وسارعت القوى التي استولت على السلطة الى دعوة السوريين في الخارج للعودة الى بلادهم. وكان في لبنان من يتوقع أن يرى عشرات الألوف من السوريين الذين يزحفون باتجاه بلادهم، غير آبهين بالإجراءات الأمنية أو الحدودية. لكن ما حصل هو العكس، فقسم كبير ممّن غادروا الى سوريا بفعل العدوان الإسرائيلي على لبنان عادوا بعد وقف إطلاق النار. واللافت أن الأرقام شبه الرسمية الموجودة اليوم، وبعد أقل من أسبوع على سقوط الأسد، تشير الى أن عدد السوريين الذين دخلوا الى لبنان أكثر من ضعفَي عدد السوريين الذين غادروا. وكما تحدّث النازحون السابقون عن تركهم سوريا خشية تعرّضهم للاضطهاد من قبل النظام السابق، فإنّ القادمين الآن يكرّرون الحجّة نفسها. لكن الاختلاف يتركز حول الهوية الطائفية أو السياسية للنازحين. ولا يوجد في الأفق أيّ مؤشر على معالجة شاملة، لا للنازحين السابقين ولا للحاليين أيضاً.

ثالثاً: شكّل لبنان لعقود طويلة «الكوريدور الرأسمالي» الذي يخدم النظام الاشتراكي في سوريا. حيث كان يتمّ الاحتيال على العقوبات والحصار، وحيث مثّل لبنان ملاذاً لأموال مافيات تحكّمت بالموارد السورية طوال عقود. كما شكّلت مصارف لبنان ملاذاً لأموال البورجوازية السورية التي هربت بعد تسلّم البعث السلطة وفرض التأميم، ثم تحوّلت المصارف، نفسها، الى ملاذٍ للأموال المشبوهة أو الآتية من صفقات غير شرعية. وحاولت مصارف لبنان الدخول الى سوريا من أجل العمل «ضمن سوق حرّة» كان الأسد الابن يحبّذها، لكنها تعثّرت أيضاً.

كما أن لبنان تحوّل بعد الأزمة السورية الى ممرٍّ للمسافرين السوريين من جهة، ومركزٍ للاستيراد أو التصدير للبضائع التي يمنع القانون السوري استيرادها، أو تمنع العقوبات تصديرها. وفي جانب ثالث، كان لبنان مركزاً لاستهلاك قسم غير قليل من المنتجات السورية، أو معبراً لمرور بعض هذه المنتجات نحو أوروبا. وما يجدر بنا توقّعه، في حال استتباب الوضع، أن لا يبقى السوري مضطرّاً إلى السفر عبر مطار بيروت، كما أن «السوق التنافسي»، الذي تقرّر اعتماده من قبل الحكم الجديد، سيسمح بوصول المنتجات مباشرة الى سوريا عبر معابرها البرية والبحرية والجوية، وسيؤدي رفع العقوبات الى استغنائها عن لبنان في علاقاتها التجارية مع العالم، وستجد طرقاً وتسهيلات أفضل عبر العراق والأردن وتركيا. إضافة الى أن سوريا قد تكون مركز استقطاب لاستثمارات عربية في عملية إعادة الإعمار وإطلاق الدورة الاقتصادية الجديدة، وهي استثمارات لم تجد طريقها الى لبنان، علماً أن كلّ تحرّك جدّي وإيجابي للاقتصاد السوري سيؤثر على القوة الإنتاجية في لبنان، وخصوصا بعدما تحوّلت العمالة السورية الى حلقة مركزية في ما تبقّى من دورة إنتاج في لبنان أو حتى في سوق الخدمات.

رابعاً: شكّلت سوريا، بخلاف كل ما قيل ويقال منذ خمسين سنة، مركزاً لتصدير النخب الثقافية والفنية، ومركزاً متقدماً في الإنتاج المحترف للموسيقيين والتشكيليين والمسرحيين والمتخصصين بعلوم الآثار، كما تربّعت دمشق على عرش الإنتاج الدرامي بنسختَيه الجيدة والسيئة، وكانت في السنوات الأخيرة مركزاً لانتاج فنيٍّ كبير، استفاد منه اللبنانيون، سواء على صعيد شركات الإنتاج التي لعبت دور الوسيط مع المنصات العارضة للمنتجات، أو على صعيد إدارة الإنتاج المشترك. وهو سوق مثّل فرصة استفاد منها عشرات الألوف من السوريين واللبنانيين، الأمر الذي ترافق مع طفرة في أوساط العاملين في هذا الحقل، حتى يمكن اليوم، لأيّ مراقب، أن يلمس العدد الكبير للسوريين العاملين في الإعلام والثقافة والفنون في العالم العربي. وإذا كان هذا العنوان محل اهتمام كتلة صغيرة من الجمهور السوري، إلا أن خسارته ستشكّل ضربة للبنان وليس للسوريين الذين سيجدون ملاذات أكثر أمناً في مصر ودول الخليج العربي. عدا عن أن بعض الدول العربية، مثل قطر تريد الاستثمار في مراكز الأبحاث وعالم الأكاديميا في سوريا بطريقة لم يعرفها لبنان، وهو أمر يناسب لبنان إن أحسن التفاعل معه، لكنه سيكون كارثة على لبنان إن اعتقد أهله أنهم هم فقط أهل العلم والمعرفة.

هذه بعض الأسئلة والعناوين التي تخصّ المسألة السورية في لبنان. وسيكون أمامنا فرص كبيرة بما يفيد لبنان. لكن إذا ظلّت المؤشرات على النحو الذي نشهده حتى الآن، فإن لبنان أمام سلسلة من المخاطر التي قد لا تكون لنا قدرة على معالجتها، ما يعني تحوّل التغيير الكبير في سوريا الى مصدر تعب لهذا البلد… الذي يفترض بأهله أن يتذكّروا دوماً دور الجغرافيا والتاريخ، وأن اسمه الفعلي هو «برّ الشام»!

 

Exit mobile version