لبنان بين عجز الداخل وسلطة الخارج: انهيار الثقة في الأحزاب السياسية وغياب القرار السيادي
كتب: المحامي حسين رمضان
لم يعد انتخاب رئيس الجمهورية في لبنان مجرد استحقاق دستوري يُفترض أن يُمارس في إطار سيادي داخلي، بل تحوّل إلى مشهد صادم يُعرّي هشاشة النظام السياسي ويبرز حجم الارتهان للخارج. أصبح هذا الملف، الذي يُفترض أن يعبّر عن وحدة الشعب وقراره المستقل، ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، بينما تقف القوى السياسية المحلية عاجزة، تُراقب بصمت أو تنتظر تعليمات تُحدد لها موقفها.
في الأيام القليلة الماضية، كان المشهد اللبناني أشبه بمسرحٍ متعدد الأدوار الخارجية. بالأمس، زار وزير خارجية فرنسا بيروت في محاولة لإعادة تحريك ملف الرئاسة. واليوم، يصل الموفد السعودي الأمير يزيد بن فرحان برسالة واضحة مفادها أن العماد جوزيف عون هو المرشح الذي يحظى بدعم المملكة. وغدًا، يُنتظر وصول الموفد الأمريكي آموس هوشستين للغرض نفسه. ثلاث قوى دولية كبرى تتصارع علنًا على الساحة اللبنانية لتحديد اسم الرئيس المقبل، في مشهد يعكس انهيار القرار الوطني وغياب أي دور فعلي للأحزاب والقوى السياسية اللبنانية.
السؤال الذي يفرض نفسه: أي دولة تُعتبر ذات سيادة تقبل بهذا التدخل السافر؟ وأي نظام سياسي يسمح بتحويل قضية داخلية مصيرية إلى ملفٍ تُديره العواصم الأجنبية؟ هذا المشهد يُظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن الأحزاب اللبنانية غير مؤهلة لقيادة البلاد، بل أصبحت أدوات تُنفذ أجندات خارجية، غير قادرة على تحمّل مسؤولياتها أو اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الشعب.
الشعب اللبناني، الذي يرزح تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية خانقة، لم يعد يثق بالأحزاب التي أثبتت مرارًا فشلها في إدارة البلاد. هذه الأحزاب، التي تُظهر عجزها في كل محطة، باتت عنوانًا للشلل السياسي والانقسام الداخلي. في وقتٍ يحتاج فيه اللبنانيون إلى حلول تنقذهم من الانهيار، تنشغل هذه القوى بتعزيز مواقعها الطائفية والفئوية، متجاهلة أن الاستمرار في هذا النهج يُدمّر ما تبقى من مقومات الدولة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة انتخابية، بل هو أزمة نظام سياسي بأكمله. هذا النظام الذي تأسس على المحاصصة الطائفية منذ عقود لم يعد قادرًا على مواكبة تحديات العصر، بل بات يُعيد إنتاج الأزمات بدلًا من حلّها. إن الفراغ الرئاسي الذي يعيشه لبنان اليوم ليس سوى انعكاس واضح لتفكك العقد الاجتماعي الذي كان يُفترض أن يوحّد اللبنانيين تحت راية دولة قوية ومستقلة.
الأطراف الخارجية التي تُدير اللعبة السياسية في لبنان ليست معنية بمصلحة البلاد، بل تسعى لتحقيق مصالحها الإقليمية والدولية. أما الأحزاب المحلية، فهي ترهن إرادتها طوعًا للخارج، معتقدة أن هذا النهج يُضمن لها البقاء، بينما الحقيقة هي أن هذا الارتهان يُفقدها شرعيتها الشعبية ويُعمّق أزمة الثقة بينها وبين المواطن.
الحلّ الحقيقي لهذه الأزمة يتطلب ما هو أكثر من انتخاب رئيس. المطلوب هو إصلاح سياسي جذري يُعيد بناء الدولة على أسس حديثة تُلغي المحاصصة الطائفية وتضمن تمثيلًا حقيقيًا لإرادة الشعب. لبنان يحتاج إلى نظام سياسي جديد، قادر على تعزيز استقلالية القرار الوطني وإعادة بناء الثقة بين الشعب والدولة.
ما نشهده اليوم ليس سوى انهيار لمعنى الدولة وفقدان للسيادة. إذا استمرت الطبقة السياسية في نهجها الحالي من الارتهان للخارج والفشل في تقديم حلول حقيقية، فإن لبنان سيبقى غارقًا في الأزمات، وستبقى ثقة الشعب معدومة في نظام سياسي لا يمثل طموحاته ولا يحترم حقه في حياة كريمة وسيادة وطنية حقيقية. المطلوب ليس فقط رئيسًا للجمهورية، بل دولة تستحق أن يحمل أبناؤها جنسيتها. اخجلوا من أنفسكم، فالتاريخ لا يرحم أحدًا، وسيسجل أفعالكم كوصمة عار في سجل هذا الوطن.