كتب غسان سعود في “الأخبار”:
للوهلة الأولى، هو مجرد خطاب رسمي آخر مملّ، يضاف إلى أطنان الخطابات الرسمية المملّة الخاصة بالمجالس والقمم والاجتماعات. لكنّ مزيداً من التدقيق في خطاب وزير الخارجية اللبناني عبدالله بو حبيب أمام مجلس الأمن الدولي، فجر الجمعة، يكشف عمّا أعدّه لبنان الرسمي – بالتنسيق مع المقاومة؟ – لـ«اليوم التالي» لوقف إطلاق النار في غزة، بعيداً عن التسريبات والغمز واللمز. وإذا كان الشرط الأساسي للملل هو غياب الأفكار الجديدة، فقد تجاوز بو حبيب هذا الفخ الدائم للمنابر بكثير من المواقف الرسمية الواضحة والجديدة، وغلّفها بدهاء سياسي يفحم خصوم المقاومة في الداخل ويفرغ خطابهم بالكامل ليُثبّت أكثر فأكثر أنهم لزوم ما لا يلزم. فبعد بضع ساعات من تأكيد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، في خطاب العاشر من محرم، أن الجهة الوحيدة التي تفاوض بعد وقف إطلاق النار هي الدولة، و«كل ما يشاع عن اتفاق جاهز للوضع عند الحدود الجنوبية غير صحيح»، كانت «الدولة» تقف على منبر مجلس الأمن الدولي في نيويورك لتكشف بوضوح, ومن دون أي لبس، عن رؤيتها وشروطها التفاوضية كاملة.تنبغي الإشارة هنا إلى أن بو حبيب، المارونيّ الطائفة والكتائبيّ الجذور والأميركي الجنسية، الذي عيّنه الرئيس أمين الجميل سفيراً في واشنطن والرئيس ميشال عون وزيراً للخارجية، هو من أقدم أصدقاء حزب الله في الوسط السياسي المسيحي.
وهو نظّم بعد تعيينه وزيراً للخارجية علاقته مع الحزب وفق مبدأ «التمايز من دون طعن أو خيانة لأكون وزير خارجية كل لبنان بكل ما يمثله الحزب من وزن ضمناً». فيما تؤكد المراجع المعنية في الحزب تفهّمها لتمايزات الخارجية حين تدين انتهاكات كوريا الشمالية لقرارات مجلس الأمن أو الغزو الروسي لأوكرانيا، طالما لم تتطور هذه «التمايزات»، في ما يتعلق بالصراع مع إسرائيل، إلى «مآخذ» أو «ملاحظات». والعلاقة مع بو حبيب تشبه العلاقة التي توصف بـ«الجيدة جداً» مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، علماً أن علاقة وزير الخارجية جيدة جداً، أيضاً، مع كل من رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس تكتل لبنان القوي جبران باسيل، فيما تتغير صعوداً وهبوطاً مع كل من ميقاتي والسفارات الأساسية وفق احترامهم لموقعه وعدم القفز فوقه.
ومن التدقيق في هوية «الخطيب» إلى التدقيق في مضمون الخطاب، تبرز ست نقاط:
1 – حمّل بو حبيب «عجز المجتمع الدولي عن تطبيق قرارات الأمم المتحدة الهادفة إلى وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى والرهائن وإدخال المساعدات (…)» المسؤولية عن «اتساع رقعة الصراع وتدهور الأحوال وتضخّم كرة النار». وهو، هنا، يقول للأقربين قبل الأبعدين إن عدم تنفيذ الإسرائيلي للقرارات الدولية وعدم قدرة المجتمع الدولي على إلزامه بالتنفيذ هما أساس المشكلة، ولا يمكن بالتالي الاستمرار في ترداد معزوفة القرارات الدوليّة والمجتمع الدوليّ بعد إثبات عجزهما. والأهم، في الصميم السياسيّ، هو ربط بو حبيب اتساع الصراع بعدم وقف إطلاق النار في غزة، حيث تصبح وحدة الساحات في مقدّمة الخطاب ونهايته تحصيلَ حاصلٍ، تجاوز الزمن البحث فيه.
2 – في ردّه على ما وصل إلى لبنان من تهديدات بحرقه وتدميره وإعادته إلى العصر الحجري، لم يقف وزير خارجية لبنان باكياً أو دامعاً، بل حذّر الإسرائيلي، من على منبر مجلس الأمن، من «سوء التقدير»، لأن «هذه الحرب، إن وقعت، ستزلزل الشرق الأوسط برمّته، وستكون عابرة للجغرافيا، وستؤدي إلى أزمة نزوح جديدة لن تسلم أوروبا منها، ليس فقط من لبنان وإسرائيل، بل أيضاً من الدول المجاورة هرباً من الصواريخ، والمُسيّرات، والطيران الحربي». وهو، هنا، وازن بين تهديده المباشر للإسرائيليين متكئاً على قوة المقاومة، وتهديده لمن يستسهل نقل التهديدات بما سيحمله البحر إليهم في حالة الحرب.
أفرغ بو حبيب خطاب خصوم المقاومة في الداخل والخارج من كل مكوّناته
3 – في جلسة علنية لمجلس الأمن، كشف بو حبيب عن طرح «الدولة» في 23 كانون الثاني الماضي، تزامناً مع بدء جولات المبعوث الأميركي عاموس هوكشتين التفاوضية، إطاراً متكاملاً لـ«إرساء هدوء مستدام على حدود لبنان الجنوبية»، يتضمّن خمس نقاط، أبرزها استكمال الاتفاق على النقاط الـ 13 الحدودية المتنازع عليها، بعد الموافقة المبدئية على إظهار الحدود في سبع منها تحت إشراف قوات اليونيفل التابعة للأمم المتحدة، ليتبع ذلك انسحاب إسرائيل إلى الحدود المعترف بها دولياً، انطلاقاً من النقطة B1 في منطقة رأس الناقورة الواقعة ضمن الحدود اللبنانية، وصولاً إلى خراج بلدة الماري التي تشكل في جزء منها الامتداد العمراني لقرية الغجر، إضافة إلى انسحاب إسرائيل الكامل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
4 – كرّر وزير الخارجية اللبناني الدعوة إلى «تطبيق كامل وغير منقوص لقرار مجلس الأمن 1701»، وفقاً لما ورد في «الإطار المتكامل» أيضاً. وهو يقول هنا على المستوى الخارجي لمن يعنيه الموضوع، إن لبنان هو من يطالب بتطبيق هذا القرار الذي خرقته إسرائيل 35 ألف مرة منذ عام 2006. أما على المستوى الداخلي، فيقول لمن جعلوا هذا القرار شغلهم الشاغل منذ السابع من تشرين الأول الماضي، إن لبنان الرسمي، وحكومة ميقاتي التي تحظى بدعم كبير من حزب الله وحركة أمل، ووزير الخارجية الذي تجمعه علاقة جيدة بكل من الحزب والحركة، هم من يطالبون ومن منبر مجلس الأمن بالتطبيق الكامل وغير المنقوص للقرار. وقد ذكر بو حبيب من منبر مجلس الأمن أن الاعتداءات الإسرائيلية تتجاوز البر والبحر والجو إلى الهجومات السيبرانية أيضاً التي تهدد السلامة العامة.
5 – استكمالاً لإفراغ خطاب خصوم المقاومة في الداخل والخارج من كل مكوّناته، أكد وزير الخارجية في حكومة ميقاتي على «تمسك لبنان أكثر فأكثر بالشرعية الدولية واحتمائه بقراراتها»، داعياً الأمم المتحدة والدول الصديقة للحكومة اللبنانية إلى تعزيز انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني، وتوفير ما يحتاج إليه من عتاد ومساعدته لزيادة عديده، بحيث لا يكون سلاح من دون موافقة حكومة لبنان.
6 – بعد مطالبته بوقف الحرب في غزة، حدّد بو حبيب سبب «التهاب الجبهة واشتعالها عند حدود لبنان الجنوبية»، بأنه «بسبب الوضع والحرب الدائرة في غزة». وهو لم يأخذ، هنا، موقفاً من وحدة الساحات، لكنه حدّد المشكلة: الحرب في غزة. وأكد أن «السلام لن يأتي قبل قيام الدولة الفلسطينية الموعودة (…)». وختم بأن «الكيل بمكيالين واعتماد المعايير المزدوجة في تطبيق القوانين والقرارات الدولية يشكلان تحدياً وجودياً لنظامنا العالمي وأسسه ومرتكزاته»، مؤكداً أن «رحلة الألف ميل تبدأ بإلزام إسرائيل بتطبيق القرارات الأربعة الأخيرة الصادرة عن الأمم المتحدة حول الحرب في غزة».
بالتالي، موقف «الدولة» التي فوّضها الأمين العام لحزب الله التفاوض فور وقف إطلاق النار في غزة، و«الإطار المتكامل» للحل الذي قدّمته الحكومة اللبنانية في كانون الثاني الماضي ينهيان الالتباس: لبنان هو من يطالب بتنفيذ كامل وغير منقوص للقرار 1701 فيما إسرائيل ترفض وتصر على مواصلة الخروقات البحرية والبرية والسيبرانية وخصوصاً الجوية، ولبنان هو من يطالب بدعمه لنشر الجيش في الجنوب وتمكينه فيما يحظى سلاح المقاومة التي تنسق مع الجيش بغطاء الحكومة، ولبنان من يريد، اليوم قبل الغد، حلاً للنقاط الـ 13 الحدودية العالقة.