كواليس مثيرة عن أسرار التحنيط في الحضارة المصرية القديمة


كشف علماء ألمان كواليس مثيرة عن أسرار التحنيط، وشبكة التجارة في الحضارة المصرية القديمة، بعد دراسة محتويات أوانٍ كانوبية، تحتوي على أعضاء بشرية محنطة من جسد سيدة نبيلة من مصر القديمة تُسمى “سينيتناي”.

وفي الورقة البحثية المنشورة، يوم الخميس، في مجلة “ساينتفك ريبورتس”، استعرض علماء معهد ماكس بلانك لعلوم الجيو-أنثروبولوجي نتائج فحص المواد المستخدمة في تحنيط السيدة النبيلة، التي عاشت قبل نحو 1450 عاماً.

وحظيت “سينيتناي” بمكانة رفيعة في أثناء حياتها، باعتبارها مرضعة الملك المصري “أمنحتب الثاني”، أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، إذ حملت لقب “حلية الملك”، وبعد وفاتها، حُفظت أعضاؤها المحنطة في أربع أوان كانوبية في مقبرة ملكية في وادي الملوك، التي اكتشفها هوارد كارتر في عام 1900 م.

تحليل المستحضرات

بحسب طقوس التحنيط المتبعة في مصر القديمة، كان المحنّط ينزع أعضاء الجسم، وتوضع في أربع جرار، عرفها الأثريون باسم الأواني الكانوبية، في كل إناء منها كان يوضع أحد أعضاء الجسد، وهي: القلب، والرئتين، والمعدة، والكبد. اعتقد المصريون بأهميتها للمتوفي في العالم الآخر.

ولحفظ هذه الأعضاء من التحلل، استخدم المحنّطون مستحضرات صُنعت خصيصاً لهذا الغرض. المثير في الورقة البحثية الجديدة، أنّ باربرا هوبر، ونيكول بويفين، وزملاءهما في معهد ماكس بلانك، حلَّلوا المستحضرات الموجودة في ست عينات بلسم مأخوذة من اثنين من الأواني الكانوبية، تم استخدامهما في حفظ رئتي سينيتناي وكبدها، لتفتح خزينة أسرار جديدة عن الحضارة المصرية القديمة.

تقول باربرا هوبر، الباحثة في معهد ماكس بلانك، وقائدة الدراسة في تصريحات خاصة لـ”النهار العربي”: “النتائج الأولية التي توصلنا إليها مثيرة للاهتمام حقاً، إذ تُعدّ المستحضرات التي فحصناها من بين أكثر المستحضرات تعقيداً في هذا العصر. وتكونت من مزيج من شمع العسل، والزيوت النباتية، والدهون، والقار (القطران)، والمواد البلسمية، فضلاً عن الراتنجات من عائلة الأشجار الصنوبرية، التي تشمل الصنوبر والأرز، ومركبات الكومارين العطرية وحمض البنزويك، ومواد أخرى مستوردة”.

ولمادة الكومارين رائحة تشبه الفانيليا، وتوجد في مجموعة واسعة من النباتات، بما في ذلك نبات القرفة، والبازلاء، بينما يوجد حمض البنزويك في الراتنجات العطرية والعلكة، التي يتم الحصول عليها من أنواع عدة من الأشجار.

توضح هوبر آلية تحليل المستحضرات، إذ تشير إلى استخدام العديد من التقنيات التحليلية التي تضمنت: كروماتوغرافيا الغاز، أو الاستشراب الغازي، وقياس الطيف الكتلي.

في أثناء التحليل، تجلت بعض التحديات أمام الباحثين، وتقول قائدة الدراسة إنّ “إحدى العقبات الرئيسية التي واجهناها في بحثنا، هي المهمة المعقدة المتمثلة في تحديد مكونات محددة داخل بلسم التحنيط القديم”.

وتتابع: “تجلى التحدي الأهم في محاولة التمييز بين راتنجات شجرة الدَّمَر، والفستق. في حين أن هذه الراتنجات لها أصول جغرافية مختلفة، فالدَّمَر يأتي من الغابات الاستوائية في جنوب شرق آسيا، والفستق من البحر الأبيض المتوسط، ورغم ذلك كانت البصمة الكيميائية لكليهما متشابهة للغاية، ويصعب التمييز بينها، في سياق العمر الطويل الذي مضى عليهما”.

شبكة تجارة واسعة

ثمَّة استنتاجات أبعد من تقنيات عملية التحنيط، كشفت عنها نتائج الدراسة، تقول هوبر: “في بحثنا عن البلسم المصنوع خصيصاً لتحنيط سينيتناي، اكتشفنا أدلة على وجود شبكات تجارة بعيدة المدى أسسها المصريون القدماء بحلول منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد”.

وتضيف: “من الأمور الواضحة بشكل خاص، اكتشاف راتنج شجرة الصنوبر، الذي يُجلب من شمال البحر الأبيض المتوسط، وأوروبا الوسطى، والوجود المحتمل لأشجار الدَّمَر، الموجودة حصراً في الغابات الاستوائية في جنوب شرق آسيا. ومن اللافت أنّ هذه المكونات لم تكن شائعة في ممارسات التحنيط المصرية في تلك الحقبة”.

وترى الباحثة أنّ استخدام مثل هذه المواد البعيدة والغريبة في بلسم سينيتناي يسلط الضوء على الروابط التجارية الواسعة، التي حافظ عليها المصريون، فضلاً عن قدرتهم على الحصول على مكونات نادرة وقيمة من جميع أنحاء القارات.

يشار إلى أنّ عدداً من الدراسات لفتت إلى الشبكات التجارية التي زودت المحنّطين المصريين القدماء بالمواد اللازمة للتحنيط، لعل أهمها دراسة نشرت في شهر شباط (فبراير) الفائت، في مجلة “نيتشر” بقيادة عالم المصريات الراحل رمضان البدري حسين، حيث حلَّل الباحثون بقايا مواد عثر عليها في أوان فخارية بورشة تحنيط مكتشفة في منطقة سقارة، وأثبتت وجود مواد جلبت من مناطق بعيدة في قارات مختلفة.

إلى جانب الاستنتاجات بشأن الشبكة التجارية المتسعة، تلفت باربرا هوبر، أيضاً، إلى أنه يمكن استخلاص العديد من الرؤى بشأن حياة السيدة سينيتناي، ومكانتها المجتمعية، إذ يشير تعقيد وثراء المستحضرات المستخدمة في تحنيطها إلى أنها كانت تتمتع بمكانة كبيرة.

يستعد الباحثون بالتعاون مع شركة عطور فرنسية، لإعادة تصنيع الرائحة المستخدمة في البلسم القديم المستخدم في التحنيط، اعتماداً على نتائج التحليلات التي أجريت، واستنتجت منها الرائحة القديمة، التي أطلق عليها “رائحة الخلود”. وستكون هذه الرائحة القديمة متاحة للجمهور مستقبلاً في أحد معارض الدنمارك، إذ ستصبح الفرصة سانحة أمام الزوار لاستنشاق نفحة من رائحة عملية التحنيط في مصر القديمة.

وفي ختام حديثها لـ”النهار العربي” تقول قائدة الدراسة إنّ الخطوة التالية لفريقها، تتمثل في استكشاف المزيد من مواقع الدفن القديمة، للوصول إلى فهم أفضل حيال تطور ممارسات التحنيط، وارتباطاتها بطرق التجارة القديمة.

Exit mobile version