كتب ناصر قنديل
لم يسبق أن كان العالم كله في حال ترقب وانتظار لما سيقوله رجل، بمثل ما هو اليوم بانتظار ما سيقوله السيد حسن نصرالله. منذ الحرب العالمية الثانية عندما كانت أوروبا تحترق بنيران الهجمات النازية، وتتحرّق شوقاً لرؤية أميركا تدخل الحرب، وجاءت عملية بيرل هاربر التي استهدف عبرها الكاميكاز الياباني المرفأ الأميركي، وكان خطاب الرئيس الأميركي تيودور روزفلت في 8 كانون الأول 1941 أمام الكونغرس، موضع ترقب في كل العالم، لأنه التوازن السلبيّ الناتج عن النجاحات الألمانية في غزو أوروبا والإخفاق في غزو الاتحاد السوفياتي، يحتاج إلى تدخل قوة بحجم أميركا لتبدأ الموازين بالتحرّك، نحو رسم نتيجة الحرب.
العالم كله ينتظر على مستوى القادة والشعوب معاً، كل كلمة سوف يقولها السيد نصرالله، هل يعلن الحرب المفتوحة، أم يضع شروطاً يربط الحرب الكبرى بعدم الأخذ بها، أم يضع قواعد اشتباك للمرحلة المقبلة مفتوحة على احتمالات الحرب المفتوحة، أم يضع مهلة لوقف الحرب وإلا تدخل بكل ثقله لوقفها، ولا أحد يملك جواباً على هذه الأسئلة الا السيد نفسه، الذي أمضى أسابيع يقود جبهة لبنان المنخرطة في الحرب بمقياس خمسين شهيداً وأكثر، لكنه امتنع عن الظهور والكلام، وهو يظهر ويتكلم اليوم. فهذا يعني أن ما كان يحتاج للوقت حتى يتبلور وتبنى عليه الخطوات اللاحقة قد تبلور، سواء كان المقود هنا الرؤية بذاتها، أو الظروف المطلوب توافرها. وقد أسهم الابتعاد النسبي عن الظهور وترك العنوان الفلسطيني وحده تحت الأضواء في استنهاض الشارعين العربي والعالمي، ليدخل على موازين القوى عامل تثقيل غير قابل للتجاهل، وبدأت المعركة البرية والمقاومة تبلي فيها البلاء الحسن، ولا خوف عليها ولا من يحزنون، بينما المذبحة المفتوحة ضد أهل غزة تحوّلت إلى استراتيجية حربية بديلة تنتظر من يوقفها، في ظل عالم غربي وعربي موزع بين التواطؤ والعجز، وشارع يمارس أعلى مراتب الضغط وتنقصه القوة.
العالم كله ينتظر على مستوى القادة لأن معركة غزة جاءت عامل ترجيح بين كفتي ميزان متقابلتين ومتوازيتين بين الغرب والشرق. وجاءت الحملة العسكرية الأميركية الإسرائيلية محاولة تثقيل معاكسة، وقادة العالم موزعون بين معسكري الشرق والغرب ومعسكر ثالث يراقب ليعرف أين يضع قدميه. وبفعل المكانة الجيوستراتيجية لشرق المتوسط وفي قلبها فلسطين، صارت معركة غزة هي المعركة الفاصلة بين المعسكرين، للعودة إلى التوازن، لكن بصيغة تتيح فتح موائد التفاوض ورسم الخرائط، وإنجاز التفاهمات، في ظل استعصاء صيني أميركي وروسي أميركي، وتراجع أوروبي بائن، أو تتيح ترجيح كفة أحد المعسكرين فتصنع موازين قوى عالمية، وبالطبع إقليمية، جديدة، وليس بين اللاعبين الدوليين والإقليميين مَن هو مؤهل من حيث الشرعية والمشروعية والقدرة والأهلية لفعل ذلك إلا حزب الله، وما يريد فعله حزب الله صار لغزاً بانتظار ما سيقوله السيد نصرالله.
العالم كله ينتظر على مستوى الشعوب، لأن سحراً فلسطينياً غيّر اتجاه الحسابات في الرأي العام، ذلك أن الشارع الغربي الذي تمّ غسيل دماغه بثقافة عنصرية خلال حرب أوكرانيا، وأظهر عنصرية مفرطة في التعامل مع أصحاب الشعر الأشقر والبشرة البيضاء والعيون الزرقاء من الروس، فكيف عساه يتصرّف تجاه سمر البشرة وأصحاب العيون السوداء والشعر الأسود، وإذ به يستعيد وعيه مع فلسطين، ويسقط الرواية التي روّجتها حكوماته وسيطرت على وسائل إعلامه، ويتبنى السردية التي وصلته من شباب وشابات فلسطين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيخرج إلى الشوارع ويملأ الساحات والميادين. وفي العالم العربي الذي سطت على عقوله شعوذات المذهبية وفتاوى القتل والإرهاب، فعلت فلسطين فعلها، فحدث ما لم يكن ضمن التوقعات، بخروج شوارع عريقة وذات أهمية استثنائية في الاستقرار الإقليمي مثل شوارع الأردن ومصر والمغرب، فكيف عندما يهتف المتظاهرون في شوارع القاهرة، يا نصرالله يا حبيب اضرب اضرب تل أبيب، لنعلم أنه ليس لدى الشعوب من ترنو إليه وتتطلع بعين الأمل صوبه إلا السيد نصرالله.
يصل اليوم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الى تل أبيب ليكون على أقرب نقطة من الفعل، يتداول مع حليفه رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في كيفية التصرّف بعد خطاب السيد نصرالله، منعاً للتهور أو التراجع، وقياس الخطوات بما يتناسب مع ما سوف يرد في خطاب السيد، ثم يجول بلينكن في المنطقة لتسويق الخطوات السياسية والعسكرية التي اتفق عليها مع نتنياهو، إعلاناً واعترافاً، بأن مركز القرار في المنطقة الأهم في السياسات والمصالح الأميركية، لم يعد بيد واشنطن، رغم وجود حاملات الطائرات، وإعلان الدعم المطلق لكيان الاحتلال.
في حالة السيد ثمّة شيء آخر غير المضمون البارد القرارات والمواقف، في حالة ما يصدر عن أي قائد وصانع قرار، ذلك أنه لدى السيد تاريخ ومهابة وحضور جذاب وجمهور عاشق، وهو صاحب مؤهلات لا تضاهيها مؤهلات في الحرب النفسيّة، وفي تفعيل معادلات القوة بالخطاب، وتحويل النص إلى آلة من آلات الحرب العملاقة، وهذه وغيرها من الأسباب تجعل إطلالته اليوم منعطفاً في تاريخ الحرب، بمقدار ما تشكل هذه الحرب منعطفاً في السياسة الإقليمية والدولية