قضايا لبنان بين التباينات الخارجية والانقسام الداخلي الحاد

بقلم البير نجيم

بقلم البير نجيم

دخلت الحرب على اوكرانيا منعطفا حساسا للغاية يفتح معه الباب على احتمالات عديدة منها:

التحول من حرب محدودة الى حرب شاملة.
بلوغ هذه الحرب مرحلة اللاعودة بالنسبة لأي من طرفي النزاع.


انخراط طرف ثالث فيها ما يؤدي لتغيير شامل في المعادلة، كمثل الدخول المحتمل لبيلاروسيا مثلا.
ولذلك لا يمكن اعتبار قرار التسليح الثقيل لاوكرانيا مجرد خطوة تكتية بالمعنى العسكري، لان واشنطن التي اتخذت هذا القرار تدرك جيدا ان القيادة الروسية تهدف من تنظيمها للهجوم المضاد رسم خط دفاعها في شرق اوكرانيا ومواصلة الهجوم من وضعية ثابتة على كامل اوكرانيا (القصف المنهجي).

وتدرك واشنطن ايضا ان قدرات الجيش الاوكراني لا تؤهله لتحرير شرق البلاد بالكامل، ما يعني بالطبع – اقله حتى الآن – ان القتال مستمر من دون افق يمكن معه لاي من الطرفين احداث انتصار، او من ناحية ثانية الولوج في مفاوضات مجدية.

من هنا فان احتمال اجتياز خط اللاعودة يبقى احتمالا يميل الى الترجيح، ويحمل معه مخاطر استراتيجية كبرى، فضلا عن ان احتمال دخول روسيا البيضاء طرفا ثالثا في الحرب الدائرة يفرض على واشنطن والناتو تحديات جديدة، وهذا ما يفسر ربما الحركة الاميركية الخارجية من اجل تهدئة وتبريد الجبهات الساخنة في كل من الصين، كوريا، ايران، فلسطين، واسرائيل، ويفسر عل الاخص الاهتمام الاميركي المتزايد باستعادة تركيا الى الحظيرة الاطلسية، وعدم الاكتراث باعادة احياء المفاوضات حول الملف النووي الايراني.

واستطرادا تأتي حركة المبعوث الاميركي الى شرق وشمال سوريا “نيكولاس غرينجر” لتندرج في الاطار عينه، في محاولة مع الاكراد والعشائر العربية والمعارضة السورية في مناطق النفوذ التركي، لتوحيد جغرافيا هذه المنطقة، باستثناء ادلب التي تخضع لسيطرة مطلقة من قبل جبهة النصرة والجيش التركي.

وضع هذا المشروع في المجال العملي حدا للتصعيد التركي ضد الاكراد من جهة، ولمسار التطبيع مع القيادة السورية من جهة اخرى، وعملت واشنطن من خلاله على الايحاء بان الملف السوري هو تحت سيطرتها اولا، وبان موسكو وطهران لا تستطيعان ان ترسما نهاية مناسبة للازمة السورية الممنوعة من الانفجار العسكري، كما والممنوعة من الحل السياسي ايضا، حتى اشعار آخر.

وفي السياق عينه يندرج استمرار النشاط العسكري الجوي لسلاح الجو الاسرائيلي فوق المسرح السوري، تقابله مواصلة الجانب الاميركي تعزيز قدراته الميدانية وبذل مساع حثيثة لاعادة هيكلة قوى المعارضة باسلوب جديد، وتقابله ايضا المناورات الجوية الاميركية الاخيرة التي تحاكي الضربة المحتملة، الامر الذي واجهته ايران بالبرودة وبحنكة الاحتواء. فمع هذا الموقف لا تصح منطقيا المزاعم القائلة بان ايران تسعى لتسخين جبهة الجنوب اللبناني مع اسرائيل، خاصة وان مثل ذلك يتعارض مع تسهيل انجاز اتفاقية الترسيم البحري والتقدم نحو الاستثمار المشترك للثروة النفطية.

وعليه، وبالعودة الى الشأن اللبناني والى تداعيات هذا الوضع الدولي والاقليمي، لا يمكن للاسف التفكير بحلول جدية للحالة اللبنانية ما لم تصل الازمة السورية الى نهاية واضحة.

هذا فيما يبدو ان واشنطن ودول الغرب عموما يتعاطون مع الازمة اللبنانية بسياسة تفكيك الملفات بحسب اجندة اولويات خاصة، فيختارون الملف الذي يرغبون من خلاله الوصول الى حل ما، تماما على غرار ما يحصل في ملف الطاقة والحدود واليونيفل، او ما يحصل في ملف الجيش والقوى الامنية والمصرف المركزي، في حين تشهد الملفات الاخرى جمودا على وقع الوضع الاقليمي، ومنها ملف رئاسة الجمهورية، ملف اللاجئين السوريين، والملف الاقتصادي. اما الشأن الامني – العسكري فمن حسن الحظ انه واقع حتى الآن تحت تأثير التقاطع الايجابي الايراني – الاميركي…

ان لبنان كدولة وكيان يجب ان يكون امرا يعني اللبنانيين قبل سواهم، وليس الدول المتصارعة والمتنافسة على كل غنيمة او بئر غاز او اي مصلحة خاصة اخرى، والترجمة العملية لذلك ينبغي ان تكون اولا بالاتفاق على انجاز ملف الرئاسة الاولى والخطوات التي تليه، فهل هذا بمستحيل اذا ما ادرك الجميع اهميته من اجل استئناف الحضور على المسرح الدولي، ولاسيما من زاوية ملف اللاجئين الثقيل الذي بات يهدد الكيان، ومن زاوية الوضع الاقتصادي المنهار، وما هناك من عوامل مشتركة بين الملفين؟

ادق ما بدأ يثيره الشغور الرئاسي المتمادي هو الاختلاف على طبيعة وشكل النظام، والهواجس المتبادلة حول الموضوع، والتي بدأ من جديد التعبير عنها باصوات مرتفعة وباسلوب او بآخر، ومن الطبيعي ان تكون المسارعة الى انهاء هذا الشغور مقدمة للعودة الى بر الامان، ومن ثم التفكير معا وبروية في كيفية استمرار العيش الواحد تحت سقف واحد بما يكفل بالحد اللازم لكل من المكونات ما يقلقه ويثير هواجسه، سيما وان ما توصلنا اليه من اتفاق على اسس الجمهورية الثانية كان باهظ الكلفة على مدى سنوات سوداء، وان مجرد التفكير بشبح هذه السنوات مرعب من دون اختلاف…

في آذار من العام 2020 اوردت في مقال لي ما يلي:

} ان استمرارنا منذ إقرار “وثيقة الوفاق الوطني” في التفرج على ما جاء فيها لناحية “الانماء المتوازن” هو من جملة ما أسس للانتفاضة الشعبية خاصة على مستوى بعض المناطق النائية ذات الثقل الشعبي… فأين نحن عمليا من موضوع “اللامركزية الإدارية الموسعة” الذي نصت عليه الوثيقة نفسها والذي لا يحتاج الى كثير عناء لوضعه موضع التنفيذ الفعلي لا النظري؟ خاصة وان من شأنه تخفيف الأعباء عن السلطة المركزية وليس العكس.

لا أستسيغ عادة الاستشهاد بآراء “مثيرة”، لكن اكثر ما استرعى انتباهي في بعض مضمونه مقال نشر مؤخرا لاحد الوزراء السابقين جاء فيه: “اذا تعمقنا في أسباب فشل الدولة نجد ان السلطة، طوال العهود والحكومات المختلفة، سعت الى ان تحكم مركزيا مجتمعا فدراليا بتكوينه، فنشأ الصراع بين الدولة والمكونات ونبتت الدويلات المعلنة منها والمضمرة. ليس الرهان اليوم الذهاب الى الفدرالية، بل العودة منها…” – جريدة النهار بتاريخ 12 آذار 2020{

نعم، ان عوامل الصراع السياسي القائم حاليا وسط الشغور الحاصل هي بهذا العمق، لا بل ربما اعمق بكثير، وانجاز الاستحقاق الرئاسي هو حجر الزاوية للحؤول دون انهيار الهيكل بالكامل، وبالتالي هو مسؤولية وطنية بالدرجة الاولى اضافة لكونه مسؤولية مسيحية بالتأكيد، مع عدم اعفاء القوى المسيحية المعنية من تبعات التباين الحاد والمؤذي.

Exit mobile version