مما لا شك فيه أن اتفاق الطائف كان التسوية لإخراج لبنان من نفق الحرب الأهلية العبثيّة التي دمرت كل شيء على مدى خمسة عشر عامًا.
قام هذا الاتفاق على تسوية دولية فرضت نفسها بعد حرب الخليج، وباتفاق سعودي- سوري، حيث تم جمع المسؤولين اللبنانيين وبالتالي توصلوا للاتفاق بعد ضغط عربي ودولي، ومما لاشك فيه أن الفضل بهذا الاتفاق يعود للمملكة العربية السعودية والجمهورية العربية السورية. وبرأيي اليوم هناك استحالة في التوافق على صياغة اتفاق آخر، اليوم أو مستقبلًا.
ومن جهة أخرى هناك تسرع بالقاء الأحكام على اتفاق الطائف، وهو الاتفاق الذي لم يتم تنفيذ أهم بنوده على الإطلاق، بل يمكنني الجزم أن ما جرى تنفيذه لا يتعدى نسبة ٢٥٪ من كامل بنود الاتفاق، بينما أهم البنود التي لم تنفّذ هي: اللامركزية الإدارية، الغاء الطائفية السياسية، قانون الانتخاب، بسط الدولة اللبنانية نفوذها على كامل الاراضي اللبنانية.
وبما أنني صاحب كتاب “إشكاليات وتطبيقات النظم الفيدرالية” أحببت أن أفنِّد الموضوع الأول، وهو اللامركزية الادارية. حيث لا يعلم البعض بأن اللا مركزية الادارية تُحتسب تحت مظلة الفدرالية، وذلك برأي معظم المشرعين، فهو مصطلح ينطلق من الفدرالية المحدودة الى الكونفيدرالية الموسعة.
اما في اتفاق الطائف و في البند الثالث من “الاصلاحات الأخرى” بالتحديد وفي اللامركزية الادارية يقول:
1ـ الدولة اللبنانیة دولة واحدة موحدة ذات سلطة مركزیة قویة.
2 ـ توسیع صلاحیات المحافظین والقائمقامین وتمثیـل جمیـع إدارات الدولـة فـي المنـاطق الإداریـة علـى أعلـى مستوى ممكن تسهیلًا لخدمة المواطنین وتلبیة لحاجاتهم محلیًّا.
3 ـ إعادة النظر في التقسیم الإداري بما یؤمن الانصهار الوطني وضمن الحفاظ على العیش المشترك ووحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
4ـــ اعتمــاد اللامركزیــة الإداریــة الموســعة علــى مســتوى الوحــدات الإداریــة الصــغرى (القضــاء ومــا دون) عــن طریــق انتخاب مجلس لكل قضاء یرأسه القائمقام، تأمینًا للمشاركة المحلیة.
5 ـ اعتماد خطة إنمائیة موحدة شاملة للبلاد قادرة على تطویر المناطق اللبنانیة وتنمیتها اقتصادیًا واجتماعیًا، وتعزیز موارد البلدیات والبلدیات الموحدة والاتحادات البلدیة بالإمكانات المالیة اللازمة.
في البند الأول لا تتناقض قوة مركزية العاصمة اقتصاديًا أو سياسيًا، مهما كان النظام فدرالي موسع او محدود، حيث الولايات المتحدة الامركية ذات نظام فدرالي موسع لكن تبقى القوة لمركزية العاصمة، فمحدودية اللامركزية لا تقوي مركزية العاصة او الحكومة.
اما البند الثاني فهو مبهم يتكلم عن توسيع صلاحيات المحافظين والقائمقامية، وذلك ليس له علاقة بلامركزية المناطق او المحافظات كما أن البند لم يدخل في التفاصيل كالصلاحيات المادية وتوزيع الثروات وكيفية ادارة مواردها وعلاقة العاصمة المركزية مع دوائرها، وكذلك وفي البند نفسه يحد من هذه الصلاحيات عندما يقول تسهیلًا لخدمة المواطنین وتلبیة لحاجاتهم محلیًّا، ومعناه الصلاحيات الادارية هي حصرًا لادارة المعاملات الحكومية، أما البند الثالث وعلاقته بالتوزيع الديمغرافي، ليس له علاقة باللامركزية الإدارية، اما الرابع فيتكلم عن اللامركزية الموسعة دون الدخول بالتفاصيل، حيث كما ذكرنا سابقًا بأن الكونفيدرالية نفسها تُسمى اللامركزية الموسعة، وأما الخامس فليست له علاقة باللامركزية الادارية بل هذا البند يعود ويحد من صلاحيتها.
في الخلاصة بند اللامركزية وُضع في وثيقة الطائف فقط لإرضاء بعض الأطراف السياسية لتمرير الاتفاق، لكي تخرج البلاد من الحرب ، ولكن في حال قرر حكام البلاد التوجه فعلًا نحو أي نوع من اللامركزية الادارية فهم بحاجة إلى دراسات كثيرة وهيئات استشارية منتدبة من قبل الحكومة اللبنانية لاقرار مشروع قانون يوافق عليه اللبنانيون، او عرضه كاستفتاء على الشعب اللبناني.
كذلك بند اعتماد اللا مركزية الادارية في اتفاق الطائف شأنه شأن معظم البنود التي لم تنفّذ: كالغاء الطائفية السياسية، قانون الانتخابات، توحيد القوى الأمنية، العلاقة بين لبنان وسورية … كلها تحتاج الى دراسات مستفيضة وتفعيل هيئات ومجالس ناظمة لتصل الى قوانين يُعتمد عليها. وأخيرا لبنان ليس بحاجة لاتفاق جديد، فالطائف يكفي لكن يتوجب الدخول بالتفاصيل والتنفيذ.