في 8 آذار/مارس 2022، وفي خطوة لم تحظَ باهتمام اعلامي كبير، زار رئيس اركان الجيش القبرصي الجنرال ديموقريتوس زرفاكيس اسرائيل للمرة الأولى، وإلتقى نظيره الاسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي وعدد من كبار القادة العسكريين. ما هي أهمية هذه الزيارة؟
وفق بيان رسمي صادر عن الجانبين القبرصي والإسرائيلي “تركز البحث على فرص التعاون بين الجيشين القبرصي والاسرائيلي”. كما جال القائد القبرصي على طول “الجبهة الشمالية” (مع لبنان )، واطلع على منظومة “القبة الحديدية” (المضادة للصواريخ). لم يمضِ شهران على تلك الزيارة حتى أُعلن عن مناورات قبرصية ـ اسرائيلية ستجري على الأراضي القبرصية بعنوان “مناورة أغانيبور” (ما وراء الأفق)، وذلك فور إنتهاء مناورة “مركبات النار” التي يجريها الجيش الاسرائيلي لمدة شهر (إنتهت رسمياً أمس في 2 حزيران/يونيو).
ومن المعروف ان “مناورة ما وراء الأفق” ليست الاولى من نوعها بين الجيشين الإسرائيلي والقبرصي، إذ سبقتها مناورات عديدة لان اسرائيل بلد ضيق المساحة ولا تسمح جغرافيته باجراء تدريبات او مناورات تلبي الطموحات الاستراتيجية للدولة العبرية، وهذا يُحتم عليها التدريب في بلاد شاسعة تسمح اجواءها وتضاريسها باجراء التدريبات والمناورات التي تحاكي طموحات الجيش الإسرائيلي وأهدافه!
لجأت اسرائيل الى تركيا ثم اليونان من اجل تدريب الطيارين الإسرائيليين على الملاحة والطيران. اما قبرص فتوفر جغرافيتها التدريب في اماكن جبلية يصل ارتفاعها في جبل الاولمب الى نحو 2000 م كما تتوافر فيها غابات ومناطق مأهولة وساحل بحري يسمح باجراء مناورات جوية وبحرية وبرية وعمليات انزال وابرارفي العديد من المناطق. هذه المناورات قادها رئيس الاركان الاسرائيلي الجنرال كوخافي شخصياً وحضر الى قبرص أيضاً وزير الدفاع بني غانتس واشرف على المناورة، الأمر الذي اكسبها اهمية لافتة للإنتباه في توقيتها ومحاكاتها لأهداف محددة.
شملت “مناورة اغانيبور” تدريب قوات الكوماندوس على القتال في جبال مرتفعة وفي مناطق مأهولة ومفتوحة وصفتها صحيفة “جيروزاليم بوست” بانها تحاكي المناطق التي ينتشر فيها حزب الله في لبنان. كما جرت تدريبات لقوات الكوماندوس البحرية على شواطئ قبرص. وذكرت صحيفة “يسرائيل هيوم” اليمينية أن قبرص “تشكل نسخة عن لبنان في المسافة وفي الظروف الجغرافية التي سيواجهها الجيش (الإسرائيلي) في حربه المقبلة مع حزب الله”. واضافت الصحيفة ان “قبرص تشبه لبنان. هناك جبال وغابات واحراج ومناطق مأهولة”.
وبثقة زائدة بالنفس، توجه بني غانتس إلى الجمهور الاسرائيلي بان قواته تتحضر وتتدرب على مستوى عال لحماية اسرائيل. لكن كل الكلام عن محاكاة هجوم على حزب الله في لبنان لا يلغي حقيقة جغرافية وهي انه لا يوجد تطابق كبير بين حقول التدريب المتنوعة في قبرص وبين الطبيعة في لبنان.
لم يعد هناك ادنى شك ان قبرص تضع جغرافيتها وجيشها بتصرف الجيش الاسرائيلي لتدريبه على شن حرب ضد لبنان بحجة محاربة حزب الله. ولذلك، كان لافتاً للأنظار البيان الصادر عن اجتماع الثامن من آذار/مارس عن رئيسي الاركان والذي تضمن موقفا قبرصيا جديدا يشكل نقطة تحول في موقف دولة كانت صديقة للبنان ولطالما إتخذت مواقف حيادية بين لبنان واسرائيل واذ بها تنحاز الى اسرائيل بشكل واضح وفاجر!
وبطبيعة الحال، اسرائيل هي المستفيد استراتيجياً من هذا التعاون العسكري وهي تؤسس لقيام جبهة غربية ضد لبنان وسوريا بعد ان تتحول قبرص الى قاعدة انطلاق لتنفيذ هجمات اسرائيلية ضد حزب الله ولا تستثني المناطق المأهولة بالسكان في لبنان.. وهذه الجبهة ستكون جديدة وغير مسبوقة وترتب تعقيدات على لبنان وحزب الله وسوريا في مواجهة إحتمال هجمات اسرائيلية مرتقبة.. مستقبلاً.
وترتبط قبرص بعلاقات صداقة مع لبنان الذي لم يعترف بجمهورية شمال قبرص وحصر تعامله مع حكومة نيقوسيا. وقد تراجعت العلاقات الاقتصادية بين لبنان وقبرص منذ إنهيار الواقع الإقتصادي والمالي في لبنان منذ خريف العام 2019، حيث إستفاد القبارصة في بداية الأمر مع هروب رساميل وشركات لبنانية وتوجه فئة لبنانية إلى تسييل أموالها بالعقارات في قبرص، وصولاً إلى إقفال فروع تسعة مصارف لبنانية في الجزيرة في الآونة الأخيرة، وما تركه من أثر سلبي في الإتجاهين!
من هنا، ينبغي القول إن تحول قبرص قاعدة انطلاق لاسرائيل امر يثير القلق فعلا ويرتب اعادة نظر بمجمل العلاقة مع هذه الجزيرة التي كانت في مراحل عديدة متنفسا للبنان وسوقا للبنانيين ووجهة سياحة وسفر ولجوء خلال الازمات.
هل يكتفي لبنان بهذا الاجراء الدبلوماسي ام يُصعد الموقف مع الحكومة القبرصية وصولا الى تجاهل الجزيرة او اتخاذ اجراءات اخرى رادعة تلجم الجانب القبرصي عن تعزيز علاقته مع اسرائيل والتحول الى قاعدة اسرائيلية؟ تجدر الإشارة إلى أن بريطانيا ما تزال تمتلك في قبرص قاعدتين عسكريتين في منطقتي اكروتيري ودكليا، وهما مبنيتان على ارض تخضع للسيادة البريطانية. وتعتبر هاتان القاعدتان من اهم مراكز الاستطلاع والمراقبة في شرقي البحر المتوسط وتجمع كل منهما معلومات استخبارية تقنية عن الساحل الشرقي للمتوسط. كل ذلك يثير الشكوك في دور بريطاني مرتقب في اي تفجير للوضع في المنطقة ويطرح جديا امكانية مشاركة بريطانيا لاسرائيل وقبرص معلومات استخبارية تتعلق بلبنان وحزب الله وسوريا ايضا.
هذا الواقع إستدعى تحرك الدبلوماسية اللبنانية وأن يبادر وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بوحبيب إلى إستدعاء سفير قبرص في لبنان بانايوتيس كيرياكو “لاستيضاح حقيقة التمارين العسكرية المشتركة مع اسرائيل وابداء اعتراضه على ما ورد في الاعلام الاسرائيلي انها (المناورة) موجهة ضد لبنان”، واجاب سفير قبرص بكثير من الدبلوماسية وبقليل من الواقعية ان هدف هذه التمارين هو تدريب حرس الحدود على الدفاع عن الجزيرة، متجاهلا كل ما ورد في وسائل الاعلام وتصريحات القادة الاسرائيليين حول هدف هذه التدريبات والمناورات! هل يكتفي لبنان بهذا الاجراء الدبلوماسي ام يُصعد الموقف مع الحكومة القبرصية وصولا الى تجاهل الجزيرة او اتخاذ اجراءات اخرى رادعة تلجم الجانب القبرصي عن تعزيز علاقته مع اسرائيل والتحول الى قاعدة اسرائيلية؟