في حضرة كبير من بلاد الأرز

في حضرة كبير من بلاد الأرز

كتب البرفسور هشام حمدان:

لبيت قبل أيام دعوة البروفسور فيليب سالم لتناول الغداء على طاولته في مركزه الخاص لمعالجة السّرطان في هيوستن، العاصمة العالميّة لمعالجة هذا المرض الخبيث. كان ذلك أوّل لقاء لي معه. لم أكن بحاجة لأقرأ سيرته وتاريخه، فهو زرع اسمه في ذاكرتي منذ سنوات عديدة. كُتب عنه الكثير. فالبروفسور سالم نجمة علميّة لبنانيّة مشعّة في دنيا الاغتراب. ساهم في رفع اسم لبنان في الولايات المتحدة الأميركيّة، وفي كل الدول التي جاءه منها كبار، للمعالجة، أو أطباء للاستزادة بعطائه العلمي، أو للتدريب. لكنّه أضاف إلى نجوميته العلميّة في حقل الطب، نجوميّة فكريّة تبلورت في مواقفه، وكتاباته الوطنية دفاعاً عن وطنه لبنان.

يفخر البروفسور سالم ويعتز، بأنّ مركزه الطبي في هيوستن، تحوّل إلى مركز عالمي الى جانب جامعة أم دي أندرسن، أهم جامعات العالم في معالجة ودراسة وبحوث الأمراض السرطانية. لكنّه يعتز ويفخر أيضاً، بإنشاء مركز سالم مع ابنه خالد، للدراسات العامة في جامعة تكساس في أوستن، إحدى أهم جامعات الولايات المتحدة الأكاديمية، ومركز سالم للدراسات في الجامعة اليسوعيّة في بيروت. ذهبت إليه لأستزيد من فكره الوطني المشع. أنا السبعيني، كنت في حضرة الثمانيني كطالب أمام معلم يعشق أن يزداد من فكره ورؤيتة. وقد خرجت من اللقاء معه بثمار عمليّة، ستبرز تباعاً في القريب العاجل.

فيليب سالم، اسم آخر أكد للعالم قيمة لبنان في حاضره ومستقبله، وأثبت رسالته منذ تاريخه الأزلي. هو ليس الأوّل، ولن يكون الأخير. فقبله لمعت أسماء كثيرة في دنيا الاغتراب، نعتز بما قدّمته من شواهد في مجتمعاتها، عن قيمة لبنان. لكنّ هذا الكبير، حمل أكثر من تاج من تيجان الأرز في لبنان. تاج العلم، وتاج العطاء، حتى لُقب بالراهب في ثوب الطبيب والعالم، وتاج النضال الحيّ المستمرّ الذي لا يتوقّف من أجل قضية لبنان. إبن الكورة المعصور من بساتين زيتها البكر، جاء يقدّم الدواء الشّافي للمرضى المحتاجين في مركزه الطبي في هيوستن دون أن ينسى آلام شعبه، فظلّ يدفق في معينهم من زيت أفكاره علّه يساهم في علاج أمراضهم الاجتماعيّة، ويعيدهم إلى طبيعتهم النموذجيّة في الشرق العربي كجسر حضاري وثقافي وديني مع الغرب الأجنبي.

فيليب سالم نموذج آخر عن نجاحات المغترب اللبناني في العالم، وعن طبيعة حضوره المعطاء المندمج بكلتيه في خدمة محيطه، بإخلاص وجهد. فالمغترب اللبناني، تحوّل إلى قطعة صخر من صخور المكان الذي أراد أن يكون وطناً ثانياً له. حمل قيمة الالتحام والعيش المشترك مع الآخر، التي هي جزء من كيانه المصنوع تاريخاً في بلاد الأرز، إلى حيث أقام.

لكنّ لفيليب سالم نكهته المميّزة. لبنان بالنسبة إليه، ليس حنيناً وأشواقاً ورابطاً ثقافيّاً وإنسانيّاً فحسب، بل هو قضية. قضية ضمير وأخلاق وعدالة مفقودة، وشعب يعيش خارج إرادته، محروم من السيادة، والحرية، والاستقلال. فيليب سالم يعشق وطنه، ويصر على اللّبننة. ليس لأنّه مسيحي، وليس لأن عشق الوطن، واللبننة سمة مسيحيّة، بل لأنّه إنسان عرف قيمة هذا الوطن، ومعنى رسالته، فهاله أن يضيع تراث بناه مجد الرب على هذه البقعة لألوف السّنين، بسبب النكهة الطائفيّة في سمة اللبننة عند الكثيرين من المسيحيين، والنكهة الطائفية في سمة اللالببنة عند غير المسيحيين. ولد فيليب سالم في بطرام الكورة من عائلة مسيحية مشرقيّة. لكنّه مقتنع، أنّ تلك النكهات الطائفيّة غريبة عن جذورنا، ولا تتوافق مع تاريخنا، وأنّ الطائفية السياسيّة، جريمة تدمّر نموذج لبنان التاريخي الذي أراده الرب ببعثه رسالة كما قال قداسة البابا يوحنا بولس الثاني.

وصفوه بقومي لبناني، فشدّني ذلك إليه. أنا أيضاً قومي لبناني، وأؤمن مثله بلبنان الرسالة. رغم ذلك، هو لا يقبل أن يجادل أحداً بأنّ اللّبننة والقوميّة اللبنانيّة، تتعارض مع العروبة. فلبنان عربي الهويّة والانتماء. لكنّه يرى في العروبة صورة الرسالة التي رسمها الله في لبنان، كنموذج لها. هو يتطلّع ونتطلّع معه إلى شرق أوسطي على حجم هذه الرسالة. فالعروبة ليست مساحة جغرافيّة، ولا هويّة دينيّة، ولا مسلكاً سياسياً، بل هي مفهوم ثقافي مرتبط بكيانات تلاحمت عبر الأزمنة، روحياً، ونفسياً، ومادياً، فكوّنت نسيجاً له هويّته الحضاريّة الخاصة. ولعل أبرز مٌدخلات هذا الكيان، كانت من خارجه. فزادته ذلك تميّزاً وفرادة. يخطئ من يعتقد أنّه يمكن أن يقيم عروبة مبنيّة على الجغرافيا أو الانتماء الدّيني. ويخطئ من يعتقد أنّه يمكن تدمير العروبة ببعث الانتماء الدّيني كهوية لجماعات أهل المنطقة.

يبدو فيليب سالم عالِماً متصارحاً مع نفسه وضميره وقيمه. هو ابن بلدة بطرام- الكورة، الذي استفاق على شهرة قريبه وجاره السفير د. شارل مالك، أحد الذين صاغوا إعلان حقوق الإنسان عام 1948. وهو رافق صعود شقيقه د.إيلي في عالم العلاقات الدوليّة، عندما تولّى وزارة الخارجيّة والمغتربين في ثمانينيّات القرن الماضي، وفي أحلك وأصعب الظروف التي مرّ بها لبنان. فيليب سالم، رفض نكهة اللّبننة الطائفيّة المسيحيّة عند شارل مالك، لكنّه حافظ على رمزيّته اللبنانيّة الفكرية كأمين لكرسي شارل مالك في جامعة هارفرد العريقة.

قلت للبروفسور سالم إنني أشعر بأسف، لأنّ العقول في بعض أهل البيئة الإسلاميّة اللبنانيّة بشكل عام، والبيئة الشيعيّة بشكل خاص، لا تعرفه، ولا تقبله. ولا تعرف ولا حتّى تقبل الآخر. فقال لي، هذه مرحلة ستزول عندما ينقشع البارود والغبار عن أرض وطننا. هو واثق أنّ اللبنانيين سيعودون سريعاً إلى طبيعة الرّسالة التي قاموا عليها: رسالة القبول بالآخر، والعيش المشترك والاحترام المتبادل، والإيمان بلبنان وطن نهائي لنا جميعاً.

Exit mobile version