في الطريق إلى الجنوب.. كادت عصافير الشتاء تتوارى.. وإطاحة مرحلة في صراعات الشرق الأوسط!
كتبت جريدة “اللواء”:
أمس الأول، كانت حكومة لبنان تجتمع في مدينة صور، وفي ثكنة تابعة للجيش اللبناني، لتخرج بإقرار أمرين على جانب كبير من الأهمية: إقرار خطة الجيش اللبناني، بموجب الصيغ التنفيذية للقرار 1701، وهي أشبه بإحياء اتفاقية الهدنة للعام 1949، على نحو متمايز، ليحل الهدوء والسلام على طرفي الحدود بين لبنان واسرائيل، ثم اتخاذ القرار الكبير بقيادة عملية إعمار ما هدمته الغارات الاسرائيلية، بطائراتها، ومسيَّراتها وصواريخها ومدافعها المدمرة وقنابلها، في المدن الجنوبية الكبرى: من صور إلى النبطية، مركز محافظة النبطية (وهي المحافظة الثانية بعد محافظة الجنوب) إلى بنت جبيل، والخيام، وميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة وكفركلا وطلوسة ورب الثلاثين والقنطرة، وعيتا الشعب وحانين والناقورة وشمع والبياضة، وسائر البلدات سواءٌ عند ما اصطلح على تسميتها «بالحافة الأمامية» وما بعدها بقليل..
بعد الزهراني، مع طول الأوتوستراد السريع، صعوداً من برج رحال، ودير قانون النهر ومعروب، وتقاطع شحور- أرزون، صريفا، فبرج قلاوي والغندورية، وصولاً إلى فرون..
بدت المرحلة محفوفة بالترقب، وليس بالخطر، فالذهاب إلى الجنوب، لا بدَّ أن يحصل أمس قبل اليوم، واليوم قبل الغد..
دمار على طول الطريق.. ولكن للصورة أبعاد أخرى، فقرى الشهداء كانت تسير في مواكب تشييع هؤلاء، الذين أمكن التعرُّف إلى جثثهم، أو ما بقي منها، وسط حداد عام يلف القرى التي، وعلى الرغم من الجراح، وفوق أشرعة الدمار والخراب، يسعون الى استئناف حياتهم، وهم يعودون من الصدمة القاتلة: ماذا حدث، ولِمَ حدث، وماذا عن اليوم التالي أو ماذا بعد؟
أعلام صفراء وخضراء تختلط بالعلم الوطني علم لبنان ترترف عالياً، تلوِّح بها النسوة والأطفال والشبان، وسط نواح النسوة اللواتي فقدن أولادهن أو الأعزاء من الشباب الذين فدوا بدمائهم أرض قراهم، وسعوا بدمائهم وجراحهم وآهاتهم إلى حماية الجنوب، الراعف، منذ 75 عاماً، وهو عمر ولادة الكيان العبري على أرض فلسطين، المحاذية لجنوب لبنان، سواءٌ من الجليل أو قراه، وصولاً إلى الشمال الاسرائيلي..
في الجنوب، في كل الجنوب تمشي الأرض في جنائز الشهداء، وعند كل تشييع، وعندما يلعلع الرصاص، جنوب النهر، بوصول النعش، أو التوجه إلى دفن الشهيد، فتخرج طائرات اسرائيل أو العدو إلى السماء، تحلّق، وتبلّق، وتستبيح الأجواء، غير آبهة باتفاق أو ما يتفقون عليه. في وقت كانت لجنة مراقبة وقف النار، الشبيهة بلجنة مراقبة الهدنة، بمشاركة الدولتين الضامنتين للاتفاق، وبمشاركة قوية من بعثة «حفظ السلام» اليونيفيل، التي تتحرك دورياتها وآلياتها باطمئنان إلى مهمتها، مع كامل التنسيق مع وحدات الجيش اللبناني المنتشرة ما وراء النهر..
هناك، في جنوب ما وراء النهر، يشاهد العائد، أو الفضولي، الذاهب للإستطلاع، أو صاحب أرض ومنزل، أصيب، أو نجا، أو تضرر أو حتى تهدم، الخبر والحدث، ويتجه إلى تجاوز مأساته، في طريق العودة إلى الديار، التي يهواها الجنوبي، إلى درجة العشق.
نبت العشب في الأرض وعلى الطرقات والأرصفة، وكادت عصافير الشتاء تتوارى خلف حكايات القصف والموت والدمار والتهجير.. هجر الناس فهجرت العصافير، حتى الحيوانات الأليفة، وبعض ما تبقى من حيوانات صغيرة كالثعلب، والواوي، وفرخ الذئب، وصولاً الى الضفادع..
في الطريق إلى العودة.. سرعة، ورغبة باقتناص الوقت، قبل صلاة العصر، وهبوط الظلمة.. وفي الطريق إلى النبطية، منازل على الطريق ومحلات تجارية ومنشآت صناعية دمّرت بالكامل، وعندما يصل المرء إلى النبطية، يتفقد الملاحم (لبيع اللحومات) والأفران، والسوبر ماركات، وكل مظاهر المدنية، التي احتضنتها عاصمة الجنوب الثانية، فهي أثر بعد عين.. وحتى الأرض المسماة «بالقطعة»، حيث كان أهالي النبطية، يحيون ليلة العاشر من محرم، أو واقعة الطفّ، دمرت بالكامل مع واجهات المحلات، قبالة حسينية النبطية، التي في جوارها يتفرَّغ متطوعون، ومتطوعات إلى توزيع الأطعمة والشراب، إلى الناس المحتاجين من المدينة وجوارها..
تدمير واجهات النبطية وعيادات الأطباء، والمؤسسات الفنية على اختلافها وتنوعها التكنولوجي، بدا أنه تدمير انتقامي، ثأري، من صمود المدينة، ودعم هيئاتها المحلية المنتجة من بلدية وهيئات اختيارية لمعارك المقاومة ضد الغزو الاسرائيلي، والسعي للتقدُّم إلى كامل منطقة جنوب الليطاني، وفتح الطريق أمام مستوطنيه، وقطعانه البشرية، للمجيء إلى أرض الجنوب، من عيترون، وبليدا وشمع والخيام وسواها..
تأملات على طول طريق الذهاب والإياب إلى الجنوب ومنه إلى العاصمة بيروت: عما حدث، وهل كان يجب أن يحدث، وماذا بعد الحرب؟
تأملات العودة، تذهب بنظرة ذات طابع شمولي إلى مجريات ما يحدث في الإقليم..
لقد نأى الرئيس بشار الاسد (الذي أعلن عن سقوط نظامه ليل امس) عن نفسه، وعن بلده، من حرب طوفان الأقصى، ومع ذلك لم ينجُ من تداعيات «حرب الطوفان»، الذي كان من أبرز نتائجه، إطاحة مرحلة، وإطاحة زعامات وقيادات ولاعبين، وبدء مرحلة جديدة، تعيد إلى الذاكرة مشاهد ليبيا، وتونس، ومصر (قبل الرئيس السيسي) انهيارات، تفكك، وإعادة تركيب طويل.