كتب محافظ بيروت السابق زياد شبيب:
في ألمانيا النازية كما في الاتحاد السوفياتي لم يكن الأمر مختلفاً من حيث قمع الحريات وعدم قبول الاختلاف وعبادة الشخص. المسألة لا تتعلق إذاً بالفكر السياسي أو الاقتصادي أو حتى الديني ومدى صوابه أو نقائه، بل هي مسألة مشتركة بين جميع التوجهات الفكرية التي لا تقيم وزناً للحرية كمبدأ وفلسفة حياة ومجتمع.
إن كل من يرفع شعارات كبيرة ويطالب المجتمع بالتنازل عن بعض أو جميع حرياته بحجة أنها تأتي في مرتبة أدنى من القضية التي يدافع عنها أو من الحرب أو الثورة التي يخوضها، أو لأن توقيت ممارستها لا يتناسب مع أولوية الصراع مع الطاغوت أو مقارعة العدو أو ردعه، جميع هؤلاء متشابهون وإن كانت تكويناتهم العقيديّة مختلفة أو حتى متناقضة.
في فرنسا قام رئيسها إيمانويل ماكرون بحل البرلمان، الجمعية الوطنية، وخاضت القوى السياسية التي تدور في فلكه المعركة الانتخابية على أساس رفض التطرف السياسي من الجهتين أي اليسار واليمين، في حين أن الواقع السياسي كان قد أصبح قائماً على ما يسمونه باليمين المتطرف المتمثل بالتجمع الوطني بزعامة مارين لوبان، ما هو إلا اليمين الحقيقي الحالي أو اليمين الجديد هو وحلفاؤه، واليسار المسمى متطرفاً والمتمثل بحزب فرنسا الأبيّة بزعامة جان لوك ميلانشون، ما هو إلا اليسار الحقيقي الحالي. والقول بالتوجه إلى الحكم من دون هذا أو ذاك هو في الحقيقة إنكار للواقع ولإرادة الملايين من الناخبين الفرنسيين، ولا يمكن بعد اليوم رفض الرأي الآخر تحت أية حجة دون أن يؤدي ذلك الرفض إلى خلل اجتماعي كبير وخطير. رغم ذلك وبعد الانتخابات التي أفرزت نتائج تؤكد صحة ما تقدم استمر رفض الآخر ولا سيما في انتخابات لجان الجمعية الوطنية ومكتبها، إلى درجة حملت رئيسة التجمع الوطني لوبان على القول بأن ماكرون أقدم أولاً على حل الجمعية الوطنية ويرغب اليوم بحلّ المعارضة. وفي الولايات المتحدة بلغ رفض الآخر حدّ التصفية الجسدية من شدّة التصريحات العنيفة المترافقة مع الانقسام الحاد في المجتمع أو المعززة له. كما في ألمانيا أقدمت السلطات على إغلاق صحيفة بسبب مضمونها وتوجهاتها اليمينية.
أما في لبنان فرفض الآخر يرتبط بتكوين القوى السياسية فيه والتي تشترك كلها في صفات عديدة تجعل منها ذات طبيعة مشتركة ولا يمكنها التعامل مع الآخر إلا من باب التعايش لأنها كيانات دينية و/أو طائفية على أقل تقدير والاختلاف معها يعني الاختلاف مع عقيدة دينية أو مع جماعة دينية بكاملها ومن هنا يأتي ردّ الفعل عندها جميعاً أقرب إلى التكفير تجاه الآخر المنتقد لها.
فلسفة التسامح أو قبول الآخر عرفت مذاهب متعددة، منها من قال، كإدوارد كوبر، بأن المجتمع المتسامح يجب أن يكون قبوله للآخر المختلف محدوداً وبالتالي قائماً على شرط هو أن يكون هذا الآخر من النوع الذي يقبل الرأي الآخر أيضاً وإلا كان مصير هذا المجتمع أن ينهي نفسه بنفسه، ومنها من قال بأن قبول الرأي الآخر يجب أن يكون مطلقاً وغير مشروط كما نادى نعوم تشومسكي وآخرون.
في بلادنا، أي من المذاهب ليس معتمداً وقبول الآخر مرتبط بإخضاعه أو تخليه، صدقاً أو نفاقاً، عن رأيه المختلف وبالتالي زوال كونه آخراً. في هذا الوقت بالذات أعادت دار النهار للنشر إصدار “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي” للدكتور عبد الحسين شعبان، والذي قدّمه المطران جورج خضر، في طبعة ثانية علّها تكون حافزاً على هذا النوع من التفكير في شؤوننا العامة.