“فرحة” وخطة “داليت”
زاهر أبو حمدة
روى الأجداد الكثير من القصص حول ما حصل معهم قبل النكبة وخلالها ومن ثم اللجوء. وقبل أعوام وضمن سلسلة “التاريخ الشفوي”، تسنى لي اللقاء بعدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين. كل شخص له قصة تستحق أن تكون فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً تلفزيونياً. قصة فيلم “فرحة” للمخرجة دارين سلام، المعروض على منصة “نتفلكس”، ذكرني بقصة الطفلة فاطمة ولاحقاً أم محمد. ترجح فاطمة أن عمرها إبان النكبة كان 13 عاماً، وشهدت عملية التطهير في قريتها الزيب قضاء عكا. فهي ركبت مع عمتها القارب واتجهت إلى لبنان. تصادف اقتحام العصابات الصهيونية مع وجودها في دار عمتها، وتروي أن والدها خاف على أمها وأخواتها الأخريات من الاغتصاب، ففتح لهن بئر المياه وخبأهن فيه. استشهد والدها، وبعد أيام التحق عمها الناجي من المذابح إلى بنت جبيل، فأخبرهم أن العصابات اكتشفت أمر النساء في البئر فردمته عليهن.
تربت فاطمة مع أبناء قريتها المهجرين في مخيم برج الشمالي جنوب لبنان وتزوجت وأنجبت، وعند الحديث معها تنفي رواية عمها علماً أن أبناء قريتها الناجين يؤكدونها. ربما الصدمة بقيت مسيطرة عليها وتكذيب الخبر يعطيها أملاً ما على الرغم من مضي عقود. التقيت الحاجة أم محمد قبل 10 أعوام وتوفيت بعد ذلك لكن قصة أهلها لم تمت فهي واقع تحول إلى تاريخ لا بد أن نرويه للعالم وللأجيال.
استطاع فيلم “فرحة” أن يزعج الإسرائيليين لأنهم يريدون طمس ما حصل واخفاء جرائمهم. لكنه أتى مخففاً من أن يقول الأمور كما هي أو يسمّي القاتل باسمه، وذلك ربما خدمة لتسويقه في المهرجانات وفي الغرب. لكن الرواية تبقى منقوصة من دون الخوض في التفاصيل وكشف الحقائق مع أن مسؤولين في العصابات الاجرامية يعترفون ويتفاخرون بجرائمهم، وهذا نشاهده في فيلم “الطنطورة” التوثيقي للمخرج الاسرائيلي ألون شفارتس. ويمكن اعتباره وثيقة قانونية للإبادة الجماعية المستمرة، وهذا ما يُخيف الاحتلال لأن فضح تاريخهم يؤدي بالطبع إلى كشف حاضرهم وما يفعلونه من استيطان وقتل واعتقال.
ولأن الأفلام السينمائية والوثائقية أسرع في الوصول إلى الجمهور من الأبحاث والدراسات، فلا بد من الاشارة إلى خطة “داليت” المعروفة بالخطة “د”، التي كان وضعها ديفيد بن غوريون ونفذتها العصابات الصهيونية لا سيما “الهاجانا”. وتفيد الخطة بأن على العصابات احتلال القرى الفلسطينية على امتداد الطريق الواصل بين القدس ويافا وتدميرها. فنفذت العصابات عمليات القتل والطرد وتوسعت نحو الجليل الأسفل والأعلى. ووفقاً للمؤرخ الاسرائيلي بيني موريس، استمر تنفيذ الخطة حوالي ثمانية أسابيع، ابتداءً من أوائل نيسان 1948. ارتكبت العصابات لتنفيذ الخطة 28 مجزرة كانت أشهرها مجزرة دير ياسين. ويشير موريس إلى أن “خطة (داليت) تتضمن بصمات واضحة لسياسة التهجير وأن بن غوريون كان يريد أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب في الدولة اليهودية الموعودة”. ويفيد المؤرخ الاسرائيلي إيلان بابيه، أنه “مع اكتمال تنفيذ الخطة دمرت 531 بلدة وقرية فلسطينية وأخلي الأحياء من سكانها، وأدت الى نزوح 800 ألف فلسطيني تحولوا إلى لاجئين في وطنهم ولاجئين في البلدان العربية المجاورة”.
وتحتاج خطة “داليت” إلى المئات من الأفلام لتوثيق ما فعلته العصابات ونقلها إلى الجمهور العربي والغربي. ومن المفيد استخدام أدوات القوة الناعمة للصهيونية ومن ضمنها السينما. فمن خلال “هوليوود” والأفلام والمسلسلات الاسرائيلية مثل مسلسل “فوضى” جعلوا الفلسطيني هو القاتل والاسرائيليين هم الضحايا. وإذا استثمرنا معركة الرواية والصورة هذه فسنربحها لأن الحق في صفنا والتاريخ يشهد.