الاخبار الرئيسيةالصحافة اليوممقالات

غزة تعود من فم الموت… وتحتفل

غزة تعود من فم الموت... وتحتفل

كتب يوسف فارس في “الأخبار”:

لم يفكر من عاش 468 يوماً من الإبادة في قطاع غزة، باللحظة التي يمكن أن تتوقّف فيها المقتلة. الحقيقة أن يدَيْ كاتب السطور ظلّتا ترتجفان حتى آخر حرفٍ في هذا التقرير. والحال ذاتها، عاشها الغزيون جميعاً، الذين باتوا كل ليلة من ليالي هذه الحرب، وهم يفكّرون في الكيفية التي سيُقتلون بها؛ بسرعة، أم مستغيثين تحت الركام لساعات أو أيام حتى يقضوا، محروقين أو مقطّعي الأوصال أو نازفين حتى الموت. وأمام هذا الكابوس الذي تحوّل طوال 15 شهراً إلى «روتين»، أضحى وقف إطلاق النار بحد ذاته «ولادة جديدة»، أو «مصادفة سعيدة»، على حد تعبير الشاعر محمود درويش.

في شوارع القطاع ومخيمات الإيواء والمستشفيات، من الشمال إلى الجنوب، وعلى وقع الغارات التي استمرت أمس، عمّت أجواء احتفالية، وأُطلقت هتافات وتكبيرات العيد وأصوات صفير لم تتوقّف حتى منتصف الليل. صحيح أن لكل واحد من الغزيين حزناً دفيناً ودمعة حبيسة ومأتماً مؤجّلاً، إلا أن ما ضخّه الإعلام العبري طوال مدة الحرب من خطط عذاب مستدامة، جعل التوصل إلى صفقة تبادل تتوقّف بموجبها الحرب، حلماً بعيد المنال. أقل تلك الخطط كان إعادة الاستيطان إلى القطاع، واستدعاء شركات أمنية مسلحة تتولّى مهمة توزيع المساعدات، وتقسيم القطاع، بل حتى قضم أكثر من ثلثيه لصالح المناطق العازلة والمواقع العسكرية، هذا فضلاً عن بعض الخطط التي أُفشلت خلال الشهور الماضية، من مثل الميناء الأميركي العائم وحكم العشائر وروابط القرى. وفي مقابل كل تلك التعقيدات، وهذا السقف من الأهداف الكبيرة والعالية، كان الفرح كبيراً بالفرج المرتقب.

البنود التي تتضمّنُها المرحلة الأولى من الصفقة، وعلى رأسها عودة أكثر من مليون وربع مليون نازح في جنوب القطاع إلى بيوتهم أو ركامها، شكّلت حافزاً للشعور بنشوة الانتصار. ويمتلك كل من هؤلاء المتروكين في العراء وتحت الخيام المهترئة، مبرراً شخصياً للفرح، غير أن تلك الاحتفالات المؤقتة، انتهت سريعاً بعدما اتضح أن ثمة بضعة أيام في عمر الإبادة، إذ لن يدخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ قبل ظهر الأحد المقبل. وحتى ذلك الحين، سيكون على الأهالي جميعهم العيش على وقع المجازر المتلاحقة، والتي أظهرت الساعة التي تلت الإعلان عن وقف إطلاق النار، أنها ستكون أكثر دموية، إذ أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية على مربّع سكني في حي الشيخ رضوان شمال وادي غزة، ما أدى إلى ارتقاء 15 شهيداً وإصابة العشرات، كما قصفت الطائرات الحربية تكيّة طعام في مدينة خانيونس، وسيارة مدنية في مخيم النصيرات وسط القطاع.

بالنتيجة، أغلق اتفاق وقف إطلاق النار الباب أمام مشاريع كبرى عشعشت في عقلية اليمين الإسرائيلي منذ بداية الحرب، وعاش الأهالي في غزة هواجسها القاسية. وأهم تلك المشاريع، الاحتلال الدائم للقطاع وتقطيع أوصاله بحاجز «نتساريم» شمالاً وجنوباً، ثم تطهير مناطق شمال وادي غزة وتحويل محافظة الشمال (جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون) إلى مناطق عازلة، وصولاً إلى تهجير سكان القطاع جميعهم إلى الخارج. وأمام كل تلك الأهداف الكبرى، يجد الغزيون أنفسهم عائدين من فم الموت. وعودة كهذه تستحق الفرح أياً كانت الخسائر والتضحيات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى