ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس أحد مدخل الصوم في كنيسة الصرح البطريركي في بكركي.
وألقى الراعي عظة بعنوان “كان عرس في قانا الجليل” (يو 3: 1). جاء فيها: “يبدأ غدًا الصوم الكبير ونرسم بالرماد إشارة الصليب على جباهنا للندامة والتوبة، وللتذكير بأنّ الإنسان مهما علا أو تجبّر هو من “التراب وإلى التراب يعود” (را تك 3: 19). فالمهمّ هو مصير نفسه. ذرّ الرماد عادة قديمة لدى جميع الديانات والشعوب للدلالة على الندامة عن جميع خطاياهم. ولكن في المسيحيّة الندامة يرتبط بها سرّ الإعتراف من أجل الإصلاح في الحياة والعيش في حالة النعمة. يتزامن الصوم الكبير مع بداية شهر رمضان المبارك، وهو زمن الصوم عند الإخوة المسلمين، نتمنّى لهم صومًا مباركًا مرضيًّا من الله. فها لبنان كلّه في حالة صوم وندامة وعودة إلى الله، نرجو لها أن تكون فاتحة خير على الجميع. وفي احتفالات يوم الجمعة طيلة زمن الصوم سواء بدرب الصليب أم بصلاة المساء في جميع الكنائس نتأمّل في سرّ حبّ المسيح للبشريّة، ونندم على إساءاتنا لهذا الحبّ الإلهيّ.
يقوم زمن الصوم على: الصوم من منتصف الليل إلى نصف النهار مع إماتات مختلفة تكفيرًا عن خطايانا، والقطاعة عن اللحم والبياض أيّام الجمعة. وبهما نروّض إرادتنا على الإبتعاد عن أيّ شرّ حبًّا بالمسيح، ونرمّم علاقتنا مع ذواتنا.
الصلاة بالخلود إليها في زمن الصوم مع سماع المواعظ في كنائس الرعايا، وبها نرفع نفوسنا وعقولنا إلى الله. فالصلاة هي أكسجين النفس. وهي ترميم العلاقة مع الله.
الصدقة تجاه الفقراء والمعوزين، وما أكثرهم! والقاعدة هي أنّ ما نوفّره بصومنا نساعد به إخوتنا بحاجاتهم، إمّا مباشرة، وإمّا بواسطة مؤسّسات خيريّة مثل كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الإجتماعيّ. بالصدقة نرمّم العلاقة مع الإخوة المعوزين.
في عرس قانا كانت الكنيسة كلّها حاضرة: يسوع المسيح، وأمّه مريم، والتلاميذ، والعروسان والمدعوّون إلى العرس. في هذا العرس تشفّعت مريم لدى ابنها: “ليس عندهم خمر” وهي تعرف ابنها أكثر من أيّ شخص آخر، وقالت للخدم: “مهما يقل لكم فافعلوه”. فقال لهم يسوع املؤوا الأجاجين الستة ماءً. ثمّ قال: “استقوا الآن وناولوا رئيس المتّكأ”. ففعلوا. فكان الخمر فاخرًا جدًّا.
هذه الخمرة الجديدة الفاخرة ترمز إلى الشريعة الجديدة، شريعة النعمة المبرّرة التي تقدّس العروسين، وشريعة النعمة الحاليّة التي ترافق حياة الزوجين وتعضدهم وتثبّتهم في الحبّ الزوجيّ الأمين، وفي ديمومة شركة الحياة معًا، وفي إنجاب البنين وتربيتهم، وفي تقديس الذات عبر الحياة اليوميّة، وفي أفراح الحياة وعذاباتها، وفي نجاحها وفشلها.
مكوّنات الكنيسة هذه تتواصل في الكنيسة البيتيّة المصغّرة التي هي العائلة (الدستور العقائديّ في الكنيسة، 11): إنّها على صورة الإتحاد بالمسيح، وتتصف بالديمومة وعدم الإنفصام، وبالوحدة العضويّة بين الزوجين وتكاملهما في جسد واحد بالحبّ الزوجيّ (متى 19: 4-6).
إنّ الكنيسة تجد ذاتها في المجتمع البشريّ وفي الدولة في كلّ مرّة كانا على صورة الكنيسة في الحقيقة والحبّ والمصالحة، وفي مغفرة الإساءة والمصارحة، وفي التعاون المتبادل من أجل تأمين الخير العام. وهذا سعي كلّ ودولة يعيشه المواطنون والمسؤولون.
لقد سُرّ المجتمع اللبنانيّ بحصول حكومة الرئيس نوّاف سلام الثقة بخمسة وتسعين صوتًا، وهي صورة ثقة اللبنانيّين والدول، بالإضافة إلى ثقتهم بشخص رئيس الجمهوريّة العماد جوزاف عون. وها هما أمام واجب تثمير هذه الثقة بالإصلاحات، وإعادة الإعمار، والنهوض الإقتصاديّ، وترميم المؤسّسات العامّة من الداخل، وقيام الدولة ومؤسّساتها، وإجراء المصالحة بين اللبنانيّين على أساس الإنتماء إلى وطن واحد، والمساواة بينهم جميعًا، بحيث يكون “لبنان وطنًا نهائيًّا لجميع أبنائه” كما تنصّ المادّة الأولى (أ) من مقدّمة الدستور، على أن يكون ولاء جميع اللبنانيّين لهذا الوطن الواحد. وبعد ذلك السير نحو إعلان الحياد الإيجابيّ بجميع مفاهيمه.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الحياد لا يعني الإستقالة من الجامعة العربيّة، ومن منظّمة المؤتمر الإسلاميّ، ومن منظّمة الأمم المتّحدة، بل يعدل دور لبنان ويفعّله في كلّ هذه المؤسّسات وفي سواها، ويجعله شريكًا في إيجاد الحلول عوض أن يبقى ضحيّة الخلافات والصراعات”.
وختم الراعي: “فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، من أجل أن يكون زمن الصوم الكبير زمنًا مقبولًا، ومجدّدًا ومرمّمًا علاقاتنا مع ذاتنا ومع الله ومع إخوتنا المعوزين. للثالوث القدّوس كلّ مجد وشكر، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين”.