عن رسالة الدكتوراة واحداث سوريا والرؤية المستقبلية لمواجهة العنف

عن رسالة الدكتوراة واحداث سوريا والرؤية المستقبلية لمواجهة العنف

كتب د قاسم قصير:
في رسالة الدكتوراة التي اعددتها في جامعة القديس يوسف حول العنف الديني التكفيري وتمت مناقشتها في 30تموز 2024 وضعت رؤية مستقبلية لمواجهة العنف تقوم على نشر العدل وحقوق الإنسان واقامة الحكم الرشيد واليوم وفي ظل التطورات التي تشهدها سوريا اعيد نشر الخلاصات التي وضعتها :

لا بد في البداية ان اعبّر اليوم عن امتناني وشكري لله اولا وللجنة المناقشة ثانيا لوقوفي امامكم لإستعراض خلاصة عملي في أطروحة الدكتوراة بعنوان : العنف الديني بين النصوص المؤسسة والمتغيرات السياسية والاجتماعية : من الخوراج الى تنظيم داعش.

وهذه الأطروحة هي خلاصة مسيرة دراسية طويلة استمرت اكثر من حوالي ثمانية عشر عاما ، عامان في اوائل التسعينيات في معهد الدراسات الاسلامية – المسيحية في بداية تأسيسه ، وست عشر عاما منذ العام 2008 الى اليوم في رحاب جامعة القدي يوسف ومعهد الدراسات الاسلامية – المسيحية وكلية العلوم الدينية ومعهد الدكتوراة.

لكن قبل أن أبدأ بعرض ما قمت به والنتائج التي توصلت إليها وإستعراض الجانب المنهجي والأكاديمي ، اسمحوا لي ان اتحدث عن جانب مهم من هذه التجربة والتي لم تقتصر على الجانب العلمي بل كانت تجربة حياة وعيش مشترك أمضيته في رحاب هذه الجامعة وتعلمت فيها الكثير الكثير من الحقائق والمشاركة مع زملاء وزميلات وأساتذة في تجربة إنسانية رائعة ساهمت في زيادة وعيي وقناعاتي بأهمية الحوار الاسلامي- المسيحي وبالتجربة اللبنانية في التنوع والتعددية والحرية ومواجهة التطرف والتعصب ، وهذه التجربة كان لها السبب الأساسي في اختيار موضوع دراستي خول العنف الديني التكفيري ولا سيما بعد بروز تنظيم داعش في العام 2014 والذي أستخدم أسوأ الأساليب والممارسات في تجربته من حرق وسبي للنساء وتدمير المساجد والحسينيات والكنائس والأثار وقتل وتعذيب ، ولم يقتصر دور هذا التنظيم على تنفيذ عمليات إرهابية بل نجح خلال أٌقل من سنتين (2014 – 2015) للسيطرة على قسم كبير من أراضي العراق وسوريا والتمدد الى لبنان ، وإقامة ما اسماه : الدولة الإسلامية في سوريا والعراق.

ولانني شعرت بالمسؤولية الذاتية لفهم هذه الظاهرة الخطيرة وكيفية التصدي لها تابعت مسيرتها وأشتركت بعشرات المؤتمرات والندوات والمبادرات للتصدي للعنف الديني ولم يقتصر عملي على الجانب الاكاديمي فقط.

وطبعا اليوم ونحن نناقش هذه الاطروحة نعيش أيضا في أجواء عنف أخر قد يكون أشد خطورة وهو ما يجري في فلسطين المحتلة بشكل عام وفي قطاع غزة خصوصا وتصل أصداؤه وتداعياته الى لبنان وساشير لذلك خلال عرض خلاصات الدراسة .
وقد تضمنت الأطروحة مقدمة وخمس فصول وخاتمة.

المقدمة، استعرضت ظاهرة العنف الديني، في المرحلة الأخيرة، وكيفيّة انتشاره، ولا سيما في السنوات الأخيرة، وبروز تنظيم داعش والمخاطر الّتي أدّى إليها هذا العنف الدّيني والأسباب الّتي أدت إلى دراسة هذه الظاهرة والدعوة لمواجهتها مع عرض الإشكالية الأساسية والفرضيات التي وضعتها .والمنهج الذي أعتمدته في الدراسة.

الفصل الأول: تناول تعريف العنف والعنف الديني، والتعريفات حول العنف والأشكال والأنواع المختلفة للعنف الجسدي أو التعبيري وصولاً للإرهاب أو العنف السّياسي والدّيني المنتشر حاليًّا. مع عرض تاريخ لبروز العنف السّياسي والدّيني والتجارب الّتي حصلت في القرن العشرين، وصولاً للمرحلة الحاليّة. والعنف الدّيني الّذي تحدّثنا عنه في هذه الدّراسة هو العنف المنطلق من أسس دينيّة، أو يسوّغ لأسباب دينيّة، ويقوم بممارسته أفراد أو مجموعات أو جماعات أو دول. ويربط هذا العنف بالمقدّسات الدّينيّة.

كان لا بدّ هنا من العودة إلى النصوص الدّينيّة الّتي تستند إليها التنظيمات الإرهابيّة والمتشدّدة من أجل تسويغ العنف الّذي تقوم به، مع الإشارة إلى أنّ هذا العنف لم يقتصر على أتباع دين معيّن أو مذهب محدّد أو عقيدة سياسيّة أو فكريّة، فقد تواصل العنف في العالم في حقب مختلفة، وجرت عمليات القتل والتعذيب والوحشيّة بأشكال مختلفة وحصلت حروب عديدة بمسميات دينيّة وغير دينيّة.

الفصل الثاني: عرض تاريخي للأسباب الّتي أدّت لبروز التنظيمات المتطرّفة، والتطوّر التّاريخيّ لجماعات العنف التّكفيريّ: من الخوارج إلى السلفيّة الجهاديّة.

وفيه المباحث الآتية:
1 – الخوارج.
2 – فتاوى ابن تيميّة التّكفيريّة.
3 – الوهّابيّة.

الفصل الثالث: جرى فيه استعراض تطوّر التنظيمات المتطرّفة أو جماعات العنف الدّيني التّكفيري، من تنظيم القاعدة إلى تنظيم داعش، وإجراء مقارنة حول دور التنظيمات المتطرّفة وخصوصًا المرتبطة بهذين التنظيمين في مختلف الدّول الّتي انتشرا فيها، فجرى عرض حجم انتشار هذه التنظيمات، وتطوّر دورها في هذه الدوّل وأسباب انتشارها وكيفيّة تطوّر علاقاتها بالأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة والصراعات الدوليّة والإقليميّة.

الفصل الرابع: جرى فيه استعراض علاقة الأديان بالعنف تاريخيًّا، ومن خلال النصوص من الكتب المقدّسة أو الأحاديث النبويّة أو الفتاوى الدّينيّة الّتي يصبح لها طابعًا مقدّسًا، لأنها صادرة عن الأئمة والفقهاء، حيث يلتزم بها المسلمون أو السّلطات القائمة، وأهميّة النصوص الدّينيّة والكتب والمناهج الدّينيّة المعتمدة في المدارس والجامعات، ولا سيما الجامعات الدّينيّة أو الحوزات الدّينيّة، والّتي تسهم في إيجاد البيئة الدّينيّة والفكريّة للتحريض على العنف أو تسويغه لأسباب عديدة، كما أُشير لفتاوى التّكفير والردّة وجواز قتال الكافرين، وتقسيم العالم ما بين دار السّلم ودار الحرب، والمقولات الّتي يلجأ إليها الدُّعاة للعنف الدّيني كجاهليّة القرن العشرين والتّكفير والهجرة.

الفصل الخامس: جرى فيه عرض كيفّيّة مواجهة التنظيمات المتطرّفة وجماعات العنف الدّيني التّكفيري والتطرّف العنيف، وأبرز الرّدود الفكريّة والفقهيّة والعقديّة والحضاريّة على طروحات التنظيمات المتطرّفة.

الخاتمة: خلاصات حول كيفيّة المواجهة للتنظيمات المتطرّفة والرؤية الجديدة.

كما تضمنت الدراسة ملحقا موسعا تضمن عرضا لاهم المبادرات والمؤتمرات والوثائق حول مواجهة التطرف الديني وهذا الملحق يشكّل دليلا توثيقيا يمكن للباحثين الإستفادة منه .

ولن أستعرض ما تضمنته الفصول الخمسة بل سأركز على النتائج والخلاصات والرؤية المستقبلية.

فماهي أبرز الخلاصات التي توصلنا إليها في هذه الدراسة ؟ وهل هناك من رؤية مستقبلية للتخفيف من العنف بكافة أشكاله ؟ ولا سيما العنف الديني التكفيري او التطرف العنيف؟

أبرز الخلاصات
ما هي أبرز الخلاصات التي توصلنا إليها في هذه الدراسة؟

ان العنف ليس حدثًا جديدًا، في تاريخ الشّعوب، ولا يقتصر على مجتمع دون غيره، إلا أنّ المجتمعات تتفاوت في قدرتها على ضبط النزوع العدواني للكائن البشري كلّما ارتقت في سلّم التطور الاجتماعي والثقافي بفعل تناميها الحضاري من جهة، وتحقيق أوسع قدر من العدالة والمساواة بين مواطنيها، بأداء ديموقراطي فعلي يضمن للجميع حقّ التعبير، وحقّ المشاركة السياسيّة وغيرها، من جهة أخرى. فيما تعاني بعض المجتمعات التفكّك والنكوص كلّما انحدرت فيها القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة، وافتقدت حياة الإنسان فيها جدوى الحياة، وسادت بين أبنائها علاقات التسلّط والقمع والعنصريّة والاستبداد، سواء أكان بفعل صراعاتها الدّاخليّة أم مع محيطها الخارجي، الأمر الذي يجعل من هذه البيئات الاجتماعيّة مرتعًا للتطرّف والعنف.

و ليس هناك شكل واحد من العنف، سواء كان جسديًا أو نفسيًا أو فكريًا أو لغويًا أو اجتماعيًا أو تربويًا. وهناك تعريفات متعدّدة للعنف السائد، اليوم، في العالم؛ وإذا كان العنف مرتبطًا بالصراع في معظم الأحيان، فإن هناك نوعين من العنف، الأوّل هو العنف المباشر مثل القتل والتعذيب والإيذاء الجسدي أو الحصار والعقوبات؛ والثّاني هو عنف غير مباشر، وأحيانًا يكون من ضمن ما يسمّى “الحرب النّاعمة”، وهو يتم من خلال التميّيز في النوع الاجتماعي (الجندر) أو عبر التعليم أو لأسباب دينيّة أو طائفية أو عرقيّة أو بسبب الّلغة واللون أو الأصل الاجتماعي. وقد يكون العنف من خلال الاستغلال وعدم إعطاء الحقوق لأصحابها من العمال والفلاحين، وعبر التمييز بين الأغنياء والفقراء في الأنظمة الاجتماعيّة والاقتصاديّة (الطبقيّة).

و حول العلاقة بين مفهومي العنف والإرهاب ، الإرهاب يتقارب في المعنى أوّليًا مع العنف، إذ يُعدّ الإرهاب بمفهومه العام: “الاستخدام غير المشروع للعنف”، فهو ظاهرة قديمة جديدة، لكنّ الأضواء سُلطت عليه في ظلّ الأزمة الأخلاقيّة التي يعيشها النظام الدّولي، في العقود الأخيرة، وبفعل الانتقائّية في تطبيق قواعد القانون الدّولي والشرعيّة الدّوليّة وتوظيفها سياسيًا، ما تسبّب بزيادة أعمال العنف في مناطق مختلفة من العالم.

ولا يوجد مصطلح من المصطلحات أكثر استثارة للخلاف مثل مصطلح الإرهاب، إذ اختلفت وجهات النظر وتباينت، متأثرة بالمصالح الوطنيّة أو القوميّة أو المعايير السياسيّة، ولكن حتى الأن ليس هناك تعريف عالمي موحّد حول الإرهاب أو حول التمييز بين إرهاب الأفراد والجماعات والدول . وقد يكون أحد اهم الاسباب لعدم وضع تعريف دولي واضح للإرهاب كي لا يتم الحديث عن إرهاب الدولة وهذا ما يجري اليوم في فلسطين المحتلة.

و إن ظاهرة العنف الديني التكفيري هي من أخطر الظواهر التي برزت قديما وحديثا ، وهي ليست جديدة في مجتمعاتنا وهي تعود بجذورها الى المراحل الأولى من التاريخ الإسلامي ، وعندما يتداخل الدّيني بالسياسي والإلهي بالبشري، ويختلط الأُخروي بالدّنيوي والماورائي بالواقعي والمقدَّس بالوضعي، كما يحصل مع بعض الأحزاب والجماعات التي ترفع شعارات دينيّة لتحقيق أهداف سياسيّة وسلطويّة، فإنّ العقل الدّيني ينقل إلى الحقل السياسي كلّ مطلقاته ويقينياته وثوابته وأحكامه ومقدّساته. والمقدس المطلق بطبيعته يتعارض وحرية الفكر والرأي والتقرير والاختيار، وهو يفترض السّمع والطاعة والخضوع، ويأبى الاختلاف والخروج على ما يُعِدُّه أصحابه إجماعًا، تحت طائلة شيطنة الشخص المختلف أو المبتدع، وتعرّضه إلى البند والاتهام في دينه والتشكيك في إيمانه، وعندما يرتبط العنف بالتكفير ويتحول الى ممارسات إجرامية نكون في أعلى درجات الخطورة على المجتمع والإنسان .

و لا يقتصر العنف الدّيني التّكفيري على الجانب الإسلامي، فقد برز في مناطق أخرى في العالم. فمن أشكال العنف الدّيني التّكفيري ما شهدته أوروبا من القرن الثّالث عشر إلى القرن السادس عشر تحت اسم “محاكم التفتيش” (Inquistion) ثمّ الحروب الدينيّة، “ومحاكم التفتيش هي محاكم كاثوليكيّة وضعها “البابا غريغوار” التاسع لمحاكمة جرائم البدع والردّة وأعمال السّحر والشّعوذة في جميع أنحاء العالم المسيحي، فأدّت هذه المحاكم والحروب الدينيّة التي شهدتها أوروبا على نطاق واسع، خلال تلك المرحلة، إلى مقتل عشرات الآلاف وسلبهم ممتلكاتهم لمصلحة الكنيسة” . هناك، أيضًا، نماذج الحرب الدينيّة في تلك المرحلة، مثل مذبحة سان برتيليمي (Saint- Barthe’lemy) في فرنسا، في العام 1572، والتي ذبح طلاّبها ما يرقى إلى 30 ألف بروتستانتي على يد السّلطات الكاثوليكيّة والمتعصّبين الكاثوليك. ولم يبقَ بلد في أوروبا لم يتأثر بأعمال العنف بين الكاثوليك والبروتستانت، وبجرائم قتل الملوك التي ارتكبت باسم الكتاب المقدس أعمال عنف بين مختلف الطوائف البروتستانتيّة، وبين عامي 1517 و1648 اشتعلت القارة الأوروبيّة بنيران الحروب الدينيّة.

وان “جماعات العنف الدّيني التّكفيري” في المجتمعات الإسلاميّة قديمة العهد، منذ وفاة الرسول الأعظم محمد(ص) والاختلافات التي نشأت بعد وفاته، وتشكّل ظاهرة الخوارج إحدى أبرز هذه الجماعات، والتي تستمر بأشكال مختلفة على طول التّاريخ الإسلامي وحتى يومنا الحاضر. ونقصد “بجماعات العنف الدّيني التّكفيري”: “هي الجماعات التي ترتكز على قاعدة تكفير الآخرين وتستخدم العنف لنشر أفكارها وسيطرتها، وتقدِّم نفسها الممثل الحقيقي للدين الإسلامي”. وإذا كانت هذه الظاهرة ارتبطت تاريخيًا بالصراعات الكلاميّة والعقائديّة وإشكاليّة الخلافة أو الإمامة والصراع على السّلطة، فإنها اليوم برزت لأسباب سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة وغياب العدالة وحقوق الإنسان والتنمية والحكم الرشيد. وقد استفادت قوى دوليّة وإقليميّة من هذه الجماعات في صراعاتها ومعاركها. ولذلك اختلط البعد الدّيني التّكفيري مع الصراعات السياسيّة والدّوليّة والإقليمية.

ولقد كانت الوهّابيّة -ولا تزال- تلعب دورًا مؤثّرًا وفاعلًا في المشهد الدين الإسلاميّ بشكل عام، وفي السعوديّة بشكل خاص، وهي الملهمة للعديد من التيّارات السلفيّة والمتشددة في العالم، لكن السلطات السعوديّة، تعمل منذ عدة سنوات من أجل ضبط دور هذه التيّارات داخل السعوديّة كي لا تتحوّل إلى قنبلة متفجرة، وهذا يؤكّد العلاقة الجدليّة بين ثالوث التكفير والتطرّف والسلطة، فعندما تكون السلطة الحاكمة بحاجة إلى التيّارات المتطرّفة، والعنفيّة والمتشدّدة تعمل لدعمها والسماح بنشاطاتها وإطلاق دورها الثقافيّ والتربويّ والفكريّ، وبالعكس عندما تتحوّل هذه التيّارات إلى عبء على السلطات الحاكمة، تعمل هذه السلطات إلى التضييق عليها ومحاصرتها ومنع انتشارها وتقوم باعتقال قادتها أو محاكمتهم.

ثامنا : مع أهميّة الدور الذي لعبه «تنظيم القاعدة» في تشكّل المجموعات المُتطرّفة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن ولبنان والسعوديّة والعديد من الدول العربيّة والإسلاميّة، إلاّ أنّ «تنظيم داعش» يُشكّل أخطر نموذجًا من التنظيمات الإسلاميّة المُتطرّفة على صعيد الدول العربيّة والإسلاميّة، نظرًا لانتشاره الواسع على الصعيد العالميّ، ولحجم الأعمال الوحشيّة التي ارتكبها، إن في المناطق التي سيطر عليها أو في مناطق وبلدان خارج سيطرته.

وبالرغم من فقدان «تنظيم داعش» الكثير من المقاتلين، وخسارته مناطق في سوريا والعراق ولبنان في المرحلة الأخيرة، والإعلان العالميّ عن هزيمة «الدولة الإسلاميّة في العراق وسوريا» أو ما يعرف باسم «داعش»، فقد ظلّ هذا التنظيم أكثر التنظيمات الإرهابيّة دمويّة على مستوى العالم بحسب دراسة أعدّتها جامعة ماريلاند الأميركيّة؛ فقد نفّذ التنظيم خلال العام 2016 أكثر من 1400 هجوم، وقتل أكثر من سبعة آلاف شخص وذلك بزيادة نحو 20% عن عام 2015، على الرغم من تراجع عدد هجمات التنظيمات المتشدّدة على مستوى أنحاء العالم وعدد الوفّيات عنها بنحو 10% في العام 2016.

واستمرّت الهجمات الإرهابيّة المرتبطة بتنظيم داعش وغيره من التنظيمات المتشدّدة متصاعدة في أنحاء العالم طيلة الأعوام الأخيرة (2017 -2024)، كما عمد التنظيم لإعادة تشكيل بنيته العسكريّة والإسلاميّة من أكثر من بلد عربيّ وإسلامي. ولذا لا بدّ من دراسة الجذور الفكريّة والسياسيّة والتنظيميّة لتنظيم «داعش»، وكيف ولد من رحم تنظيم «القاعدة» والجماعات الإسلاميّة الجهاديّة والمتشدّدة والتي برزت في العقود الثلاثة الأخيرة، وعرض علاقة التنظيم بالأوضاع الإقليميّة والدوليّة.

تاسعا : هناك ترابط كبير بين نموّ ظاهرة التطرّف في المجتمعات المحليّة وبين القوى الإقليميّة والدوليّة، فالمجموعات الإسلاميّة المُتطرّفة تستند فكريًّا ونظريًّا إلى تفسيراتخاطئة للدين الإسلاميّ او للنصوص الدينية ولا سيّما على صعيد العلاقة مع الآخر، من خلال استخدام تفسير التعاليم والمفاهيم والنصوص الدينيّة الإسلاميّة لمواجهة الآخرين تحت مسمّيات متنوّعة (الجاهلية، تكفير المجتمع دار الكفر، دار الإسلام، ودار الحرب، مخالفة التعاليم الدينيّة، وتطبيق الحدود…)، وبالمقابل تسعى بعض الجهات الغربيّة (فكريًّا وسياسيًّا وأمنيًّا) من أجل استثارة المجتمعات ضدّ الإسلام والمسلمين من خلال استخدام الإسلاموفوبيا (الخوف أو الرهاب من الإسلام)، وذلك بتعميم ربط الأعمال الإرهابيّة والمُتطرّفة بالإسلام والمسلمين.

وبموازاة ذلك تعمد بعض القوى الإقليميّة والدول الكبرى (سواء عبر وسائل الإعلام أو أجهزة المخابرات أو من خلال العلاقات السياسيّة والأمنيّة) إلى استخدام المجموعات المُتطرّفة والمتشدّدة والعنفيّة لتحقيق مصالحها السياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، من خلال اختراق هذه المجموعات أو تجييرها في صراعات محليّة أو إقليميّة أو دوليّة.

وان الحرب العسكريّة والأمنيّة لا تكفي لوحدها في مواجهة «داعش»، رغم أهميّة نتائجها في نهاية مشروع «دولة الخلافة» أو إنهاء سيطرة «داعش» على العديد من المناطق، ولذلك نحن نحتاج إلى استراتيجيات سياسيّة وفكريّة واجتماعيّة للانتصار على التطرّف،

و الانتصار على الجماعات المُتطرّفة التكفيريّة في الميدان العسكريّ، يوفّر علاجًا مرحليًّا وآنيًا لا بدّ منه لإعادة الأمان والاستقرار إلى المجتمعات المبتليّة به، أمّا العلاج الدائم فيحتاج [إلى] الكثير من الجهود في حقول متنوّعة تشكّل مجتمعة البعد المستقبليّ لاستراتيجيّة المواجهة. وهذه الاستراتيجيّة مرتبطة بإعادة تشكّل المفاهيم والمنظومات القيمية لدى البيئات العربيّة والإسلاميّة، وبناء منهجيّات مقاربة جديدة، من منطلقات تداول السلطة والمواطنة والحريّة وقبول الآخر، لأنّ جذور التطرّف والتكفير يكمن في الأفكار وبالإضافة إلى ذلك يجب بذل الجهد الفكريّ والدينيّ والاجتماعيّ لمواجهة العنف والتطرّف، كما أنّ المسارات السياسيّة مهمّة لمواجهة «تنظيم داعش» ومنع عودته للتحرّك.

إن الحروب التي يشهدها العالم اليوم ، وليس أخرها الحرب في أوكرانيا والحرب على غزة ، وإستمرار الصراعات والحروب والأزمات السياسية والإقتصادية في العديد من الدول العربية والإسلامية ، وإنتشار موجات العنصرية في العالم ، إضافة للإساءات للرموز الدينية ، كل ذلك يشكّل دافعا لإنتشار العنف والتطرف وبيئات مناسبة لبروز جماعات العنف الديني التكفيري في كل أنحاء العالم.

وان كان هناك ملاحظة مهمة اليوم وهي ان جماعات العنف الديني التكفيري لم تتحرك لنصرة الشعب الفلسطيني وهذا يؤكد علامات الاستفهام الكثيرة حول دور هذه التنظيمات والجماعات وإرتباطها باجندات خارجية او اقليمية.

و من أجل الرد على طروحات “تنظيم داعش” والأسس الفقهية والفكرية التي تبناها لتبرير العنف والجرائم التي ارتكبها صدرت العديد من البيانات والمواقف من شخصيات ومرجعيات ومؤسسات دينية لتفنيد كل هذه الأسس وتقديم خطاب بديل قادر على إقناع الشباب المسلم بعدم صحة الطروحات المتطرفة والتفسيرات الخاطئة للنصوص الدينية، وقد رصدنا العديد من البيانات والنصوص الفقهية التي صدرت في الرد على أفكار “داعش” وأمثاله.

كما عقدت مئات المؤتمرات والندوات والورش واللقاءات الحوارية وصدرت عشرات الوثائق وجرى تعزيز الحوار الإسلامي- المسيحي وأطلقت العديد من المبادرات الحوارية بين كافة الأديان وأتباع مختلف القوميات ولا سيما في الدول التي شهدت إنتشار تنظيم داعش ، إضافة الى حصول تغييرات تربوية ودستورية وإجتماعية وفي المناهج الدينية في العديد من الدول العربية والإسلامية ، وقد ساهمت كل هذه الأنشطة في تراجع نسبة العنف الديني التكفيري ، ولكن لم نصل الى حد نهاية هذا العنف كلية ، بل إنطلق الى مناطق ودول أخرى مستغلا الصراعات السياسية والمذهبية أو بسبب الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في هذه الدول ، كما هو الحال في أفغانستان وباكستان أو في بعض دول أفريقيا ، إضافة للخوف الدائم من عودة داعش والقاعدة الى سوريا والعراق ولبنان بسبب الأوضاع السياسية والأمنية المتدهورة.

و في إطار الرد الفكري والوطني والحضاري والإنساني الشامل على طروحات “تنظيم داعش” وجماعات العنف التكفيري، ومن أجل نشر ثقافة وطنية ودينية تقبل التعددية ومفهوم المواطنة وقبول الآخر، ولمواجهة مختلف أشكال العنف، صدرت العديد من الوثائق في المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية، وبعضها بشكل مشترك مثل “وثيقة الإخوة الإنسانية” التي صدرت بالتعاون بين “الأزهر الشريف” و”الفاتيكان” في الرابع من شباط (فبراير) من العام 2019.

وأهمية هذه الوثائق أنها ساهمت في تعميم ثقافة إنسانية ووطنية ودينية جديدة، وتحول بعضها إلى برامج عمل في مختلف المؤسسات وعلى الصعيد المجتمعي والتربوي كما أقيمت عشرات المؤتمرات والندوات التي بحثت تلك الوثائق وكيفية تحويلها إلى برامج عملية، ويضاف إلى الوثائق البيانات والنداءات الصادرة عن المؤتمرات واللقاءات الدينية والفكرية والتي تتضمن أسساً فكرية وتوجهات للعلماء والشباب وأفراد المجتمع من أجل مواجهة ثقافة التطرف والعنف.

كما صدرت وثائق أخرى مهمة وعقدت عشرات المؤتمرات وصدرت توصيات وقرارات مهمة تدعو الى رفض العنف والإعتراف بالآخر وقبول التنوع وإعداد المدارس والكليات التي تخرج علماء دين قادرين على معالجة هموم العصر وإعتماد أساليب حديثة في التبليغ ، إضافة لإحترام حقوق الإنسان ، لكن تبقى المشكلة في تطبيق هذه التوصيات وتحويل الوثائق الى خطوات عملية وإدخالها في المناهج الدراسية والتربوية ، وطالما هناك مدارس ومناهج دينية لا تعترف بالتنوع وبحق الإحتلاف وتتبنى التكفير ، وطالما هناك ظلم وعدم إحترام لحقوق الإنسان وعدم قيام دولة المواطنة ، فإن العنف التكفيري لن ينتهي وسنشهد موجهات أخرى من العنف والتطرف.

سادس عشر : من خلال ما تم استعراضه من ردود فقهية وفكرية ودينية وتربوية وحقوقية، ومن مبادرات ومؤتمرات وأنشطة وكتب ودراسات ومراكز دراسات وأبحاث ووثائق وندوات من أجل مواجهة “جماعات العنف الديني التكفيري” و”التطرف العنيف”، يتبين لنا أنه أصبح لدينا حصيلة كبيرة من المواد المرجعية الفكرية والفقهية والدينية والتربوية والحقوقية والتي تشكل مادة مهمة للعودة إليها للرد على خطاب العنف الديني وتشكيل رأي عام جديد رافض للتطرف والعنف وبيئة ترفض احتضان هذه الجماعات أو تقديم أي شكل من أشكال الدعم لها، وكل ذلك يؤكد أن النصوص الدينية الأساسية ترفض العنف والتكفير والتطرف لكن للأسف فإن التفسيرات الخاطئة أو التأويلات غير الصحيحة لبعض هذه النصوص، هي التي سمحت سواء في مراحل تاريخية سابقة أم في هذه المرحلة، بنشوء هذه الجماعات وتبرير جرائمها وأخطائها وممارساتها التي تشوه الدين.

كما أنه عبر استعراض هذه الوثائق والأنشطة يتبين أن المؤسسات الدينية الرسمية والمؤسسات الأكاديمية والهيئات المدنية والتربوية قد قامت بجهد كبير للتصدي لجماعات العنف الديني التكفيري وقدَّمت خطاباً بديلاً يمكن اعتماده واللجوء إليه للردّ على ما تطرحه هذه الجماعات من فتاوى وأفكار وخطابات للتأثير على الشباب والأجيال الجديدة.

والأهم في ما قمنا باستعراضه أن بعض هذه المبادرات تحولت إلى سياسات رسمية في العديد من الدول العربية والإسلامية، كما جرى في السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة والأردن وتونس والعراق ولبنان على سبيل المثال لا الحصر، وجرى إعداد مناهج دينية وتربوية جديدة يمكن أن تساهم في توفير المناخات المناسبة لنشوء ثقافة القبول الآخر والتعددية ورفض العنف، إضافة لإصدار الفتاوى والمواقف من الجهات الدينية الرسمية التي تدعو لرفض العنف والتطرف.

لكن رغم كل هذه الحصيلة الهامة، فإن “العنف الديني التكفيري” أو “التطرف العنيف” لم ينته كلية، ورغم كل الجهود التي بذلك لمواجهة هذه الجماعات المتطرفة، فهي لا تزال ناشطة في العديد من الدول والمناطق سواء في سوريا والعراق ولبنان، أو في إفريقيا أو في أفغانستان وباكستان، وأحياناً في بعض الدول الأوروبية وفي أميركا، وقد تكون هناك أسباب أخرى سمحت وتسمح ببقاء هذه الجماعات وهذا يتطلب رؤية مستقبلية ومتكاملة للمواجهة.

والخلاصة
النص الديني هو المادة الخام الذي يؤدي سوء التفسير له الى تحويله الى مادة تحرض على العنف وهذه المهمة تتولاها جماعة دينية او شخصية دينية او سياسية ومن ثم تتوفر الظروف الاجتماعية والسياسية لاستغلال ذلك من قبل سلطة سياسية او جهات امنية او سياسية داخلية او خارجية لاستخدام هذه الجماعات في صراع داخلي او اقليمي او دولي ، وعندما تنتهي عملية الاستخدام تتم محاربة هذه المجموعات او الجماعات ، مما قد يحوّلها الى المزيد من العنف والتشدّد ، وان اشتداد الظلم او الاضطهاد في بلد ما او بيئة معينة يشكّل البيئة المناسبة لبروز الجماعات الدينية التكفيرية وانتشارها .

الرؤية المستقبلية
.في إطار المواجهة المستقبلية نقدّم بعض الأفكار التي توصلنا إليها في كيفية التصدي للعنف الديني التكفيري .
وتتركز الفكرة الأساسية في هذا الإطار بإرتباط العنف بغياب العدل الحقيقي وما يتضمنه مفهوم العدل بمعناه الشامل ، اي تأمين حقوق الإنسان وكرامته ورفض الظلم لاي سبب كان ، كذلك عدم تبرير ظلم إنسان ما بحجة حصول ظلم من قبل الجماعة التي ينتمي اليها او قسم من هذه الجماعة فلا يمكن ظلم إنسان ردا على التعرض للظلم من جهة او فريق او مجموعة معينة.

وعلى ضوء ما تقدم نصل الى نتيجة مهمة فكلما ساد الظلم بكافة وجوهه إنتشر العنف ، والعكس صحيح ، فكلما ساد العدل ضعف العنف وتراجع ولا يجد له البيئة المناسبة لإنتشاره ، واذا توفرت الشروط المناسبة لتحقيق العدل الشامل وتلبية حاجات الانسان الحقيقية والكاملة في العلم والمعرفة والإعتقاد وممارسة شعائره الدينية والعمل والتعبير عن رأيه الصريح والحصول على حقوقه، فلن يكون هناك سببا من أجل لجوئه للعنف ، ولذا فالقاعدة الأولى والمركزية من أجل مواجهة العنف الديني التكفيري تقوم على قاعدة العمل لقيام العدل ، سواء على صعيد المجتمع او على صعيد الدول أو حتى على صعيد العلاقة بين الأفراد والجماعات ، ومن هنا الرؤية الدينية القائمة على أساس أن هدف الأنبياء إقامة العدل في الكون وانها وجدت من أجل الإنسان لا العكس ، وأن الهدف الأسمى للأديان هو قيام دولة العدل . وترتبط بذلك أيضا كل القيم الإنسانية التي تحدثت عنها الأديان في جوهرها وحقيقتها ، من خلال التأكيد على حرية العقيدة ورفض الإكراه وحرية العمل وضمان حقوق الإنسان وكرامته ، والوقوف بوجه كل أشكال الظلم التي يمكن أن يتعرض لها سواء من الأفراد او الجماعات أو الحكومات والدول.

و القاعدة الثانية في مواجهة العنف الديني التكفيري فتقوم على إعادة القراءة الحقيقية والشاملة للنصوص الدينية بعيدا عن التفسيرات والقراءات الجزئية ، لأن جوهر الأديان يقوم على أساس الرحمة وحب الإنسان والعمل من أجل الإنسان ورفض الظلم والإساءة له ، وإن الأديان قامت من أجل الأنسان وليس العكس ، ولذا نحتاج دوما الى قراءات جديدة وتفسيرات جديدة للنصوص الدينية تأخذ بعين الإعتبار تغيرات الزمان والمكان وتطور العقل البشري ، ولا بد من إعتماد النسبية في فهم النص الديني ، وإعتبار ما توصل إليه المفكرون والفقهاء والعلماء هو إجتهاد مرتبط بالظروف الزمنية والمكانية التي تواجدوا فيها ، وهذا يتطلب رؤية جديدة ومتجدّدة للنصوص الدينية وعدم التوقف عند تفسير معين أو رؤية محددة.

و القاعدة الثالثة فهي تتعلق بإعادة دراسة علاقة النصوص الدينية وفهمها وتفسيرها أو تطبيقها بطبيعة العلاقة بالسلطة ، فالسلطة أو الحاكم يسعيان دوما للدفع لتفسير النصوص الدينية او إستثمارها لما يخدم سلطتهم وحكمهم ، ولذا نشأت العديد من جماعات التكفير بدعم من السلطات او رعايتها ، وكل ذلك يتطلب قراءة جديدة لعلاقة المؤسسات الدينية بالسلطات والحكومات ، وإبعاد المؤسسة الدينية عن السلطة المباشرة وحصر دورها في الجانب الإيماني أو التوجيه العام بعيدا عن الصراع على السلطة ، ومن هنا أهمية إعادة قراءة العلاقة في المجال العام بين الدين والسلطة والإستفادة من التجارب العالمية في هذا المجال.

والقاعدة الرابعة تتعلق بعلاقة العنف الديني التكفيري بالوقائع السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأجهزة الأمنية والإستخبارية ، فليس هناك عنف ديني تكفيري خام او من داخل النصوص فقط ، بل هناك تفاعل وتواصل وترابط بين النصوص الدينية ومن يحملها أو يفسرها وبين الوقائع السياسية والإجتماعية ومن يستغل هذه النصوص ويسخرّها لخدمة أهدافه .

وفي أخر الكلام لا يمكن أن نتوقع نهاية للعنف الديني التكفيري في عالم اليوم ، حيث يسود الظلم والطغيان والفساد والإستغلال ، لكن مسؤوليتنا العمل للتخفيف من هذا العنف عبر تأمين أفضل الظروف لقيام العدل وحماية حقوق الإنسان وكرامته والتأكيد على حرية العقيدة والإيمان او ما سمي في بعض الوثائق ” حرية الضمير ” ، وهذا يتطلب الوصول الى أفضل وأقوى العلاقة الحقيقية مع الله عز وجل ومعرفة الله حقّ المعرفة بعيدا عن المفاهيم الخاطئة والتفسيرات الجزئية للنصوص الدينية والفهم الحقيقي لروح الأديان وأهدافه

Exit mobile version