عن احد ابرز مفكري ايران : مرتضى مُطهرّي.. عالم اجتماع إسلامي بقالب معاصر
كتبت سلوى فاضل:
في ظلّ تعاظم دور الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم على الصعيدين الإقليمي والدولي والتحديات التي تواجهها ومن اجل فهم الجذور الفكرية للثورة الإسلامية الإيرانية نطل اليوم على أحد أبرز مفكريّ الثورة الإسلامية الايرانية وهو الشهيد مرتضى مطهري.
فهل من جامعيّ لم يسمع بمرتضى مُطهريّ؟ غالبًا ما كانت كتاباته مدخلا للتعمّق بالدين الإسلامي، وخاصة فئة الشباب الذين وعووا على الثورة الإسلامية في نهاية السبعينيات. لقد تأثر كُثر بالثورة التي أبهرتهم باسقاطها الطاغوت البهلوي، فاندفعوا بعدها إلى البحث عن فكر هؤلاء الذين أسسوا للثورة وكانوا دعامة لها.
كانت كتابات مرتضى مُطهرّي الأقرب إلى العقل والمنطق نظرا لسلاستها، وحفرها عميقا في فكر الشباب الذي غالبًا ما كان يساريًّا.
وقد اعتمد مرتضى مُطهري على علم الاجتماع للرد على مختلف التساؤلات، كما لجأ إلى الفلسفة وأعمدتها في ضخّ الأفكار التي تُقلق الجيل الضائع والتائه حينها.
لكن شهادته كانت ضربة كبرى للدولة الشابّة، مع العلم أنّ كتبه لا تزال إلى اليوم مقروؤة ومُتابعة لاسيّما بعد أن تحوّل الصراع إلى صراع فكري عقيدي في مرحلة إشتد عود العَلمانيّة العربيّة المُتأثرة بالغرب الأوروبي خلال الثمانينيات والتسعينيات.
في كتابه المُهم ضمن(سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي) وضع الفيلسوف والمفكر اللبناني خنجر حميّة في العام 2013 كتابه الكبير حول مرتضى مُطهريّ عارضًا لأفكاره تحت عنوان (مرتضى مُطهريّ: الإشكالية الإصلاحية وتجديد الفكر الإسلامي).
والكتاب مُقسّم على ستة فصول في 390 صفحة وأكثر من 30 صفحة من الفهارس والمراجع في مسرد ضخم، في محاولة لإلقاء الضوء على السيرة والسيرورة الفكرية لمُطهريّ والكشف عن أبرز القضايا التي كانت تشغله.
وما يُورده المفكر حميّة من أن “فكر مُطهريّ يتميّز بالشمول والاستيعاب وبالاستطراد وعدم التنظيم في وقت واحد”، هي ملاحظة مهمة توّضح حجم الجهد الذي يبذله وبذله البحاثّة سابقًا وحاليًّا حول فكر مُطهريّ كونه اعتمد في تنصيص كتبه على محاضرات له في المساجد والجامعات الإيرانية آنذاك، وليس بخطّها بقلمه,, كما هو مفترض من قبل كل مُفكر مُنتج. فالأمر بين الطريقتين مختلف كثيرًا. ولا زالت الأشرطة التي تخرج من عباءة مكتبه إلى اليوم، في كتب مُحررة ومنصوصة بعد أكثر من أربعين عاما على استشهاده (1 أيار/مايو 1979). وهو “الذي أنتج أفكاره ورؤاه على مدى مساحة من الزمن تمتد إلى 40 عامًا”.
هذه الدراسة، بحسب حميّة، “مُقسمة على ستة فصول، الأول يشرح فيها المؤلف أبعاد فكر مُطهريّ المتمثل بالإشكالية المعرفية، والثاني الإشكالية الاجتماعية – السياسية. أما الثالث فيبحث بإشكالية الإحياء في فكر مُطهريّ، في حين أن الرابع يفصل موقف مُطهريّ عن الفكر الغربي، وهو برأييّ أهم فصل كونه يجد فيه المتابع ضالته من خلال ردود مُطهري على الأفكار الغربية التي أُدخلت إلى الجامعات في العالم العربي، وباتت تُشكّل تيارات وحركات فكرية وفنية وسياسية واجتماعية كالعدميّة والإلحاد ومصير الإنسان والموت…
ويختم بحثه في الفصل الخامس الذي يُشكّل استخلاصا للنتائج، ويُتبعه بالسادس ليُشكّل مسردا لمؤلفات مُطهريّ باللغة الفارسيّة، لغته الأم.
دخل البروفسور حميّة إلى فكر مُطهري عبر عرض شامل ووافٍ للمرحلة التاريخية والسياسية التي أحاطت بإيران آنذاك، أي مرحلة ما قبل الثورة الإسلامية في العام 1979 وما بعدها، والتي لم تكن طويلة بالنسبة للشهيد مُطهري، الذي كان في عز عطائه واندفاعه وشبابه وثوريته.
كانت الثورة بحاجة له كرجل دولة فيما بعد، من هنا تصيّده الإعداء واغتالوه ليقضوا على الثورة في مهدها، لكنه بقيّ خالدًا من خلال فكره وكتبه التي هي بمثابة صدقة جارية، كما يقول التراث الديني الإسلامي.
الشهيد مُطهري واجه في عملية الإحياء مشكلتين: الأولى: مشكلة فئة من الشباب والمُثقفين الذين يتشبّعون بأفكار الغرب، ويحملون نظريات سلبيّة قاتمة عن الدين وعلماء الدين وكتب الدين. والثانية: مشكلة الفئة الجامدة الهامدة من المُسلمين الإيرانيين التي تفتقد كل تحرّك، وترى بأم أعينها ما يضج به المجتمع من فساد وانحراف، غير أنها تترك الأمر إلى اللّه، وتنتظر الفرج الغيبيّ. فما نهض به الشهيد مُطهريّ هو مكافحة الانحرافات الفكرية كمُقدمة لإحياء الدين.
تقديم الإسلام بلُغة العصر
أخذ مُطهري على عاتقه تقديم الإسلام بصورة عصرية، أي المزج بين الأصالة والمُعَاصرة، والاتجاه الفكري في المجتمع الإسلامي سيتخذ أحد الاتجاهات: إما بالتقوقع والابتعاد عن روح العصر، وإما بتحريف الإسلام باسم التقدميّة.
وكان مُطهري قد حذّر روّاد النهضة الإسلامية، وقال لهم “تحذيري إلى زعماء النهضة الإسلامية العظام، وأتم الحجة بيني وبين ربّ العالمين وأقول لهم: إنّ نشر الأفكار الغريبة والتقاطها باسم الفكر الإسلامي وإضفاء الطابع الإسلامي عليها، سواء كان ذلك عن سوء نيّة أو حسن نيّة، هو خطر يهدد كيان الإسلام. وطريق مواجهة هذا الخطر لا تتمثل في المنع والحظر، وهل يمكن منع العطشى المتلهفين إلى الماء من تناول الماء بحجة أنه ملوث؟! إنها مسؤوليتنا التي تفرض علينا أن نُقدّم كتبا بلغة العصر في الحقول الإسلامية المُتنوعة، لو أننا عرضنا ماء قراحا سلسبيلا بالمقدار الكافي لما اتجهوا إلى الماء المُلوث”.
أما طرق المواجهة “فهي عرض المدرسة الإسلامية بشكل صحيح في كل المجالات وبلغة العصر. فحوزاتنا العلميّة التي تموج بالنشاطات الاجتماعية يجب أن تعي مسؤوليتها العظيمة العلمية والفكرية. ويجب أن تُضاعف أعمالها العلمية والفكرية مرات ومرات. ويجب أن تعلم أن الاقتصار على الدراسات الفقهية والأصولية الرسمية لا يفي بالغرض فيما يتعلق بحاجات الجيل المعاصر من التفكير والبحث العلميّ”. ويلخّص مُطهري نشاطه الفكري والثقافي لإحياء الدين في المجتمع، فنجد مصداق ذلك فيما كتبه من مقالات، وألقاه من محاضرات، ودوّنه من كتب. لقد استطاع الشهيد الشيخ أن يطرح القضايا الفلسفيّة من خلال معالجة الواقع الاجتماع كما فعل في “أسباب النزوع نحو المادية” و”العدل الإلهي”.
فقد قارع النظرية الماديّة وتفسيرها للتاريخ والمجتمع في كتب عدة، وتناول قضية المرأة من خلال كتب ومقالات عديدة، وكتب في تفسير القرآن. وساهم في توضيح المفاهيم الإسلامية وتبيان التفسيرات الانحرافية في جهد استمر أكثر من ثلاثة عقود في التوسط بين “الأصالة” و”المُعاصرة”، من أجل إسلام حاربته قوى الشر والضلال والانحراف لتُبعده عن الحداثة.
وقد كان للشهيد مطهري تأثيره الكبير في تحريك التيارات المنزوية ودفعها إلى ساحة النشاط الاجتماعي الرسالي، وإزالة الأفكار والمفاهيم السلبية التي ترسخت طويلا في أذهان المتدينين التقليديين تجاه العمل السياسي والنشاط الاجتماعي الإسلامي.
لكن!!!
وإن كانت أفكار الشهيد مُطهري متنوعة، إلا أنها لم تكن قاسية على المجتمع الإيراني، حيث نجد بعضها لا يخالف ما هو مشهور بين العلماء، وبعضها يخالف أسس قيام الرسالة، فبرأيه لابد أن تلحظ الأفكار الإسلامية التطور الزمني”.
مشروعه الأساس
تتجلّى عبقرية الشيخ مرتضى مطهري في مشروعه الفكري وهو الذي سميّ بالفيلسوف والمُجدد، إذ جمع بين الدراسة الأصولية وفقه الواقع من جهة، والنظرة المستقبلية للمجتمع المسلم من جهة ثانية.
كما شخّص مُطهري التخلّف الفكري والإنحطاط الثقافي الذين أصابا الحياة الدينية للمجتمع الشيعي بسبب انتشار المنهج الإخباري الذي سيطر على العقل الشيعي طويلا. فكانت مهمته رصد أمراض التغريب والاستلاب عاملا على وصف الحلول والعلاجات من خلال رؤية حديثة للفكر الإسلامي.
وكان قد عرض للمشتركات بين السنّة والشيعة: منها الألوهية والنبوّة والقرآن والفقه الإسلامي، وحقوق الإنسان والمرأة والأسرة.
كما قدّم ما يقوله الشرع الإسلامي حيال كل موضوع مستجد وعصري وحديث مدافعًا ومناقشًا ومفسرًا ومبررًا، حيث تناول التشوّهات التي أصابت الفكر، مع تركيزه على ضرورة التجديد والنهوض الفكري والحضاري للمسلمين الذين تخلفوا عن الغرب منذ العهود العثمانية المديدة التي أماتت كل تطوير.
يُعيد د. حمية أصل الاشكالية الغربية وتبريراتها بالقول “بالنسبة للشهيد مطهري يصعب تحديد الزمن الذي انعطف فيه الاجتماع الغربي نحو ما سميّ بعصر الحداثة، بتجلياته الثقافية والفكرية وبآفاقه العلمية وبحراكه السياسي والاجتماعي”. ويلفت إلى أن “الحداثة تشكلت في صورتها الحالية جراء جهد تفكيك وتشظية للموروث الحضاري الغربي من جهة, ومن محاولة اعادة تشكيل البنى والاسس التي قامت عليها مظاهر الحضارة”.
فالحداثة، كانت مشروعا بدا أنه يتم إنجازه باستمرار لا في لحظة بعينها، فمشروع الحداثة لا أهمية له إلا بقدر ما ولدته في دائرة الاجتماع الإسلامي من آثار وردود حركها الالتقاء المباشر.
والمؤلم, برأي حمية, أن المسلمين إلتقوا بالعالم الحديث وهم في لحظة قهقرى وفي غاية انحطاطهم الثقافي والفكري.
وطالب بالتحليل الاسلامي للاجتماع البشري ولحركة التاريخ، ورفض إلغاء الحرية الفردية والمجتمعية فعلى “الانسان ان يمارس حريته ضمن شروط التاريخ وظروف المجتمع، فالخيارات الإنسانية هي وليدة المجتمع”. وشدد على أهمية وحدة المجتمع البشري وتعدده، وعلى أهمية السنن التاريخية، لكنه حذّر من التوفيق بين المفاهيم الإسلامية والفلسفة التاريخية الماركسية. من هنا شدد على انسانية الانسان ورفض البعد المادي والنزعات المادية.
وكانت المواجهة الكبرى ليس على صعيد الحداثة الفكرية، بل القيمية والاخلاقية نظرًا للفرق الشاسع بين الغرب والاسلام، خاصة فيما يتعلق بالنسبية الاخلاقية أو بالنفعية أو المصلحة.
ولم يكن مطهري عالم دين مُعمم، بل هو اصلاحي مزج بين الحداثة وايجابياتها والقيم الاسلامية الصالحة لكل زمان. وإن كانت العلة في أدوات التفسير والشرح والتطبيق وخلق الافكار.