وسط ازدحام بالمواعيد والاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا، انتقلنا إلى ما يشبه “العزلة الجماعية” في صيدنايا السورية بدعوة من مؤسسة “هنا هويتي”، بعيداً من الانترنت، في دير يرتفع صلاة وتأملات على تلة من لقاءات هادئة.
المكان: دير بعيد من الضجيج، ولو كان قريباً من أنين ذاكرة حرب موجعة.
الزمان: بعد اثني عشر عاماً من حرب ممنهجة فعلت فعلها في الناس والمجتمع والدولة والوطن، ولو لم تحقق أهدافها المباشرة.
الحضور: جمع من الشابات والشباب بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة من عمرهم، أي أنهم بالتمام والكمال جيل الحرب الذي مُلئت كل صفحات وعيه بأصوات القذائف والانفجارات ومشاعر الخوف والضياع وفقدان الهوية، وربما انسلخ عن هويته الوطنية لأن الوطن كان بالنسبة له ساحة موت ومساحة لا استقرار ولو مفروض فرضاً.
الجهة الداعية: مؤسسة “هنا هويتي”، التي أرادت منها المهندسة السورية النائبة السابقة الصديقة ماريا سعادة أن تمدّ يداً الى هؤلاء الشابات والشباب لتجذيرهم في “هوية” هي على الأقل هويتهم الشخصية، وبالتالي مساعدتهم في تكريس مفهوم الانتماء إلى ذاتهم أولاً، وإلى أرضهم ثانياً، ولو تركوها لحين ولكنها تبقى فيهم.
المنشّطون أتوا من سوريا ولبنان ليسمعوا وليضعوا خبرتهم بالتصرف.
واكتشفوا في رحلة الاكتشاف والاستماع، أن جيل الحرب السورية مهجوس بالإنجاز الذي يشعره ممنوعاً أو صعباً أو مستحيلاً في ظل مرحلة ما بعد الحرب وما جنته أيدي التطرف واللؤم. وهذا الجيل مسكون بالهجرة التي يعتبرها بعضهم، ولو القليل، قطاراً إلى “حياة وردية” هي في الحقيقة ليست هكذا.
اليافعات واليافعون يريدون تحقيق شيء ما، ويشعرون أنهم تأخروا.
وكأن الحرب جمّدتهم لفترة، وبعد ذوبان الجليد يريدون الاستفادة أسرع من غيرهم من العمر، لأن الجزء الأكبر منه ضاع، على صغره.
وهذا بحدّ ذاته تحدٍّ يمكن أن يقود إلى فعلٍ ما وتستغرب كيف طوّروا ذاتهم رغم الظروف، والتحقوا بركب التقدّم، يمكن أن يقود الى إنجازات قد تتخطى نسبة العشرين في المئة المتعارف عليها عالمياً.
إيجابية الوجع أنه يفجّر فيك طاقة في زمان ما وفي مكان ما، ويضعك في معركة مع الذات. وهنا، الصمود والاستمرار والحفاظ على الحلم هو إنجاز بذاته، ونبارك لهم ولأهلهم بذلك. ولذلك يُتوقّع من بعض جيل الحرب السورية أن يصنع فرقاً. فلننتظر ولنرى.
ولكن، في المقابل، هناك قلّة من هؤلاء اليافعات واليافعين يلهثون خلف الخارج. كل خارج بالنسبة لهم هو أفضل: أهنأ، أهدأ، أكثر إنتاجية، وإمكانية للإنجاز والتحصيل المادي.
ليست لديهم بلدان محددة يحلمون بها، فحلمهم هو الطائرة وليس مهماً أين تحطّ.
وهذا هو الوجه السلبي لانعكاسات الحرب على وجوه بعض اليافعات واليافعين.
ومن أول أهداف الحروب في منطقتنا، هو اقتلاع الناس من أرضهم، وتفتيت الدولة، وتشليح الهوية الوطنية من الشعب، وصولاً الى سهولة وضع اليد.
فلسطين الأربعينات شاهدة، وكذلك لبنان السبعينات. بواخر تهجير، لأن أكثر ما يستفز الدولة الكبرى هو “سياسيون سياديون” ومواطنون يعيشون هويتهم الوطنية أينما كانوا، لا يحملونها وحسب. وهو ما تعمل عليه ماريا سعادة: إذهبوا حيثما شئتم، ولكن ابقوا أوفياء لانتمائكم وهويتكم!
ولذلك، كانت “العزلة الشبابية”، والخلطة بين جيلين وبلدين لـ”هنا هويتي”، جرساً مهماً للتنبّه للمشروع الذي إن لم تحققه الحرب بذاتها، يمكن لنتائجها أن تحققه.
وكأنها دعوة جماعية إلى وضع الجهود الحقيقية، لا لإقفال الحدود على التهجير من جهة، وعلى استقبال المزيد من التدمير فقط، بل إلى يقظة وعي تنتقل إلى شباب لديهم، رغم كل شيء، الاستعداد لتلقف مفتاح يشقوا به طريقهم نحو غد سليم، وهي حتماً خطوة أولى على درب تخطي آلام الحرب وهواجس عمر حسّاس.