شقائق النعمان تمسح حزن كفركلا لتعانق أرضها السماء
باكراً ننتقل من بيروت الى الجنوب، لمشاركة أهالي كفركلا فرحة عودتهم الى بلدتهم صباح الثلاثاء (18 شباط 2025) أول يوم بعد انسحاب العدو الاسرائيلي منها. إلا ان الدخول إلى البلدة لم يكن سهلاً، نسبياً: حاجز الجيش اللبناني على مفرق دير مماس كفركلا (من الطريق العام بعد جسر الخردلي) كان يمنع السيارات من الدخول الى البلدة. في لحظات اكتظ المكان بمئات العائلات، فيما اصطفت السيارات في صف طويل على جانبي الطريق العام، مما سبب زحمة سير خانقة وعرقلت مواصلة الكثير منها السير الى بلدات أخرى، الأمر الذي اضطر عناصر الجيش اللبناني التدخل لتنظيم السير، وتسهيل مرور السيارات الى البلدات الأخرى. وبانتظار قرار السماح لنا بالعبور الى كفركلا، نستغل الوقت للمشاركة في نقاش مع بعض المعتصمين في خيمة الاعتصام عند مفرق البلدتين قبل الحاجز، فيما يؤكد لنا احد الناشطين من كفركلا ومنظمي الاعتصام تصميم الأهالي على دخول البلدة مهما كلف الثمن.
بعد نحو نصف ساعة من الانتطار، واستمرار منع الحاجز العسكري دخول السيارات، يشير الينا أحد الناشطين الى طريق زراعية بين أشجار الزيتون تتجاوز الحاجز العسكري، وتؤدي الى الطريق الرئيسية الى كفركلا. فاضطررنا، مثل غيرنا، إلى الالتفاف عبر هذه الطريق الوعرة التي يستخدمها المزارعون، لكن ما ان نصل الى الطريق الرئيسية إلى كفركلا حتى نفاجأ بحاجز آخر للجيش اللبناني، الذي كان، أيضاً، يقطع الطريق على السيارات بإحدى ملالاته.
نقاش قصير مع العميد بالجيش عند الحاجز الثاني، الذي بدا مهذباً ومتفهماً، بشأن الجدوى من هذا الحاجز (والحاجزالأول)، وما يسببه من إزعاج للناس، ولماذا لا يوضع الحاجز عند مدخل البلدة، بما يسمح للناس بالاقتراب بسياراتهم الى البلدة، بدلا من المشي سيراً لمدة نحو ساعة، خصوصا ان بينهم الكثير من النساء والأطفال. لكن الأوامر هي الأوامر.
نشكر الضابط على كل حال، وننطلق باتجاه البلدة الصامدة.
اشجار الزيتون على جانبي الطريق تضفي مشاعر من الإلفة، خصوصا مع تدلي ثمار الزيتون حيث لم يستطع المزارعون من جني محصول هذا الموسم بسبب العدوان الاسرائيلي، فيما أزهار شقائق النعمان تتفتح بين تلك الأشجار لتضفي المزيد من الجمال على الطبيعة الخلابة للبلدة، وتمسح حزن كفركلا لتعانق أرضها السماء.
مع اقترابنا من أطراف البلدة نرى البيوت المتباعدة، نسبيا، قد سويت بالأرض، فيما رائحة البارود تتصاعد من بين الركام.
نواصل السير مع بعض أبناء البلدة، الذين يسابقون الزمن متلهفين لرؤية (أطلال) منازلهم، ونمر بمبنى البلدية المدمر، وخلفه منزل الصحافي غسان سرحان الذي أقدم العدو الاسرائيلي على حرقه، بعدما كان قد نجا من القصف المجنون للبلدة. ومع تقدمنا داخل البلدة تتراءى أمامنا مناظر البيوت المدمرة على جانبي الطريق، فيما انهمك بعض الشباب بتثبيت لوحة من الكرتون على جذع شجرة أمام منزل تحذر من وجود “قنبلة غير متفجرة”.
بين أشجار الخروب على جانبي الطريق، نسارع الخطى باتجاه ساحة البلدة والحسينية في وسطها، قرب المقبرة التي لم تسلم من القصف والتدمير. وللوصول الى ساحة البلدة نعبر طريقا أشبه بتلة بزاوية حادة، لنصل الى الساحة التي جُرفت أرضها وتغيرت معالمها مع حجم الدمار على جانبي الطريق، حيث تراكمت أنقاض المنازل فوق بعضها وبات صعبا التمييز بين هذه البيوت.
وهنا، في ساحة البلدة، وأشبه بمعجزة، ومن بين هذا “الركام العظيم”، خرج الشابان محمد رفيق ضاهر (من كفركلا) ومحمد سيف الدين (من البقاع) وسط ذهول وصدمة وفرح، علماً بأن المقاومة قد نعت في قت سابق محمد ضاهر كـ”شهيد عل طريق القدس”واعتبرت سيف الدين مفقود الأثر بعد انقطاع الاتصال بهما لنحو ثلاثة أشهر.
حياة جديدة مُنحت للشابين وتمكنا من رؤية الشمس مجدداً بعد فترة طويلة، تحت الأنقاض وركام المنازل والدمار. وباتت فرحة عائلة محمد فرحتان: انسحاب العدو الاسرائيلي وعودة ابنهم محمد سالما معافى.
وفجأة، ومن بين أطلال المنازل وركامه في ساحة البلدة، وأشبه بفيلم رومانسي، نسمع أصوات صهيل خيول، وتلوح في منتصف الطريق صورة فارسين، شاب وشابة، على صهوة جوادين يتهاديان باتجاهنا، لنستأذنهما بتصويرهما أولا، فرحبا بسرور وشارة النصر V، ليكملا رحلتهما ويختفيان وراء الأنقاض والركام، فيما أصوات حوافر الخيل ورجع صداها يذكرنا بأن “الخَيْل مَعْقُودٌ بنَوَاصِيهَا الخَيْرُ”.
نكمل جولتنا على بعض أحياء البلدة حيث تتكرر مشاهد الدمار أنّا تتلفت. البيوت التي نجت من القصف الاسرائيلي الهمجي تم تفجيرها أو حرقها، تعبيرا عن حقد دفين وسادية مجنونة، كمنزل الصحافي غسان سرحان.
نختم جولتنا في بلدة كفركلا عصراً عائدين مشياً الى حيث أوقف الجيش اللبناني سيارتنا، لنفاجأ بأرتال من السيارات قادمة الى البلدة بعدما سمح لها الجيش بالدخول الى البلدة، ما أعاد السؤال: ما هي الحكمة من منع السيارات من الدخول الى البلدة صباحاً؟ علماً بأن هذا القرار لم يمنع المواطنين من الدخول مشياً على الأقدام.
هذا الاصرار من أهالي كفركلا على العودة الى بلدتهم مباشرة فور الانسحاب الاسرائيلي يؤكد ان البطولة والتضحية لا تقتصران على المواجهة العسكرية فقط، بل تتجلى أيضاً في التمسك بالأرض، وإعادة الإعمار وصولا الى بناء مجتمع قوي متماسك يرفض الخضوع. وبالرغم من التضحيات الكبيرة التي دفعها أهالي كفركلا (وغيرها من القرى الحدودية)، من شهداء ودمار، لكنهم أثبتوا أن إرادتهم أقوى من كل محاولات الاحتلال لإخضاعها.
تبقى كفركلا، وأخواتها من القرى الحدودية، رمزاً للصمود، وأهلها مثالاً للتحدي، حيث تشكل العودة السريعة اليها وإعادة بناء منازلها المدمرة مسمارا في نعش أحلام العدو الاسرائيلي بفرض إرادته، واستكمالا لتضحيات المقاومين في دحر العدوان.