الأخبار- راجانا حمية
أسعارها موحّدة. فتحصّل، تحت ستار الدعم، أرباحاً بغير وجه حق، مستفيدة من حصرية أمّنتها لها وزارة الصحة ومصرف لبنان
أواخر الشهر الحالي، تغادر شركة «فريزينيوس» للمعدّات الطبية السوق اللبنانية. لوهلة، قد يبدو الخبر في ظلّ الأزمة الحالية عادياً، مع كثرة المنسحبين من السوق من شركات. غير أن لخروج هذه الشركة وقعاً مختلفاً، إذ إن مستلزمات «فريزينيوس» تشغّل 60% من مراكز غسل الكلى في المستشفيات. الصدارة التي تتمتع بها الشركة، وكانت إلى وقتٍ قريب مصدر ارتياحٍ للمراكز، هي نفسها تهدّد مرضى غسل الكلى بسبب حصر معظم المستلزمات بتلك الشركة.
حتى اللحظة، لا تزال «فريزينيوس» توفّر المستلزمات للمستشفيات، وتتعاون مع إحدى الشركات على قاعدة الاستمرارية. ويؤكد مدير المكتب التمثيلي للشركة في لبنان، عاصم جرّاح، «نحن شبه طلعنا من السوق، ولم يبق سوى أن نستقر على الاسم البديل»، مشيراً إلى أن الخيار بتسلم الوكالة الحصرية «هي اليوم بين شركتين أو ثلاث».
لم تخرج «فريزينيوس» من السوق اللبناني لأنها لم تعد قادرة على تلبية الطلبات، بل لأنها تخسر بمجرّد وجودها في لبنان. فما يحكم عملها ليس حاجة المرضى، وإنما «البزنس»! وبحسب جرّاح «قد تحتمل الشركة خسارة مرة، ولكن ليس مرتين أو ثلاثاً». لذلك، بدأ التفكير بالخروج العام الماضي، على أن يكون نهائياً أواخر الشهر الجاري، «فيما يبقى بعض الموظفين ثلاثة أشهرٍ إضافية لإنهاء التصفيات».
«سوق» المستلزمات
خروج «فريزينيوس» يخلفّ وراءه عاصفة بعدما ساهمت الحصرية والاستنسابية التي كان لوزارة الصحة دور مركزي فيهما في تعرية قطاعٍ كاملٍ بسبب رهنه لشركتين أساسيتين، إذ ينحصر سوق مستلزمات غسل الكلى المدعومة بأربع شركات أساسية وأخرى صغيرة وشركات أدوية «تنتج المحاليل التي تستخدم في عمليات غسل الكلى». والشركات هي «فريزينيوس» و«إنترمديك» و«غرين ميد» و«نفروباك» و«سوليباك» و«يوروميد» و«بيجي لاب» و«ألفا».
بحسب آلية الدعم، يفترض أن هذه الشركات تستوفي الشروط المطلوبة لاستيراد المستلزمات. وعلى هذا الأساس، باشرت عملها، فكانت تقدّم طلبات الاستيراد إلى وزارة الصحة، وترسلها الأخيرة إلى المصرف المركزي للموافقة عليها وصرف الأموال اللازمة. إلا أن ما كشفته أشهر من الدعم أن هناك شركتين كبيرتين فقط تستحوذان على أموال الدعم، وعلى السوق، هما «فريزينيوس» (60% من السوق)، و«إنترمديك» التي تستحوذ على الحصة المتبقية المقدّرة بـ 30 – 40% تقريباً. أما بقية الشركات، فتلعب في «الوقت بدل الضائع».
ويوضح صاحب إحدى الشركات المتضرّرة أن «معظم الشركات الصغيرة تواجه عقبات كثيرة لإتمام أوراقها، وفي الغالب تتأخر طلباتها، ما يضطرّنا في بعض الأحيان إلى إعادة تجديدها بسبب المماطلة، فضلاً عن صعوبة الحصول على أوراقٍ جديدة وخصوصاً من المصارف». وإلى هذا كله، هناك تأخير في بتّ الطلب بعد تقديمه وفي السؤال عنه بين الوزارة ومصرف لبنان. وريثما «يظهر» الملف، «تأخذ كل شحنة حوالي 5 أشهر»، فيما ينتظم شحن الشركتين الكبيرتين بمعدّل شحنة أو اثنتين شهرياً، وهو ما أشار إليه جراح وميشال وبيار فرح، مالكا «إنترمديك». إذ لا تزال الأمور بالنسبة إلى الشركتين طبيعية طالما أن «مصرف لبنان لا يزال داعماً».
مصادر في وزارة الصحة العامة تؤكد أن الكشوفات تثبت أن «الوزارة ترسل الموافقات تباعاً، وأيّ تأخير أحياناً سببه النقص في بعض الطلبات أو للتدقيق بها». إذاً، أين تكمن الإشكالية؟ ولماذا تصل موافقات الشركات الكبرى في وقتها وتتأخر موافقات الشركات الصغيرة أو لا تصل أبداً؟ تجيب المصادر بأنه «ربما لحاجة إلى مزيد من التدقيق… أو لأسبابٍ أخرى لا نعرفها». فيما يلفت آخرون إلى أسبابٍ إضافية تتعلق بأن «بعض الشركات الصغيرة تأتي بمستلزمات غير معروفة أو من شركات غير معروفة».
أما ثالث الأسباب، بحسب مصادر في المصرف المركزي، فهو أن القرار في يد الحاكم وله أن يقول «مشّولي هاي قبل هاي»، إضافة إلى أن «بعض الطلبات تدرس مع الوزارة لدعم الشركات التي تلبي حاجة السوق أكثر من غيرها أو لتسهيل دعم ما هو مقطوع».
تداعيات الدعم الاستنسابي
تتخذ استنسابية الدعم مسارين يقودان في نهاية المطاف إلى إحداث أزمة في السوق. فحصر تسهيلات الدعم بشركتين يعني تحكمهما بـ«الإمدادات»، وهو ما حصل قبل أشهرٍ عندما بدأت «فريزينيوس» تتخفّف من الطلبات رغبة منها بالخروج من السوق، فأعلنت معظم مراكز غسل الكلى عجزها عن تأمين المعدّات التي توفرها هذه الشركة ولا سيما الـ«bloodline tubing»، فيما أعلنت أخرى توقفاً قسرياً عن متابعة جلسات الغسل، من بينها مستشفى المقاصد. وزاد الأمور سوءاً أن معظم مراكز غسل الكلى عملت على تحديث ماكيناتها القديمة بأخرى حديثة تملك معداتها شركة «فريزينيوس» وحدها. وهذه الماكينات لها أنبوب خاص تؤمنه الشركة المذكورة ولا يمكن بالتالي تركيب أنابيب أخرى أو الاستعانة بشركات أخرى.
بالنسبة إلى الشركات التي حُرمت من نعمة الدعم، كان مفهوماً منذ البداية أن تعثّر واحدة من الشركتين المحظيتين سيؤدي إلى نقص في المستلزمات، وخصوصاً أن الوزارة لم تضع خطة بديلة في مسار الدعم، بل اكتفت بتجيير الدعم فقط. وفي التداعيات أيضاً، أن استحواذ الشركات الكبرى على الدعم «قضى علينا منذ البداية، فالشركات في الخارج لا تسلّم على القطعة، بل يكون التسليم استمرارياً، أي باستحقاقات معروفة ومستدامة». والخلاصة هنا أنه «إذا لم يعمل الكل، فمعنى ذلك أن هناك مشكلة». يأخذ هؤلاء على طريقة التعاطي مع الشركات باستنسابية أنها لم تعد تسمح للشركات الصغيرة بأن تكون «الخطة ب في حال انسحاب الشركات الكبرى أو تعثرها»، وقد دفع ذلك الشركات الصغيرة إلى الخروج من آلية الدعم والعمل على استيراد كل ما هو خارج تلك الدائرة. من جهة أخرى، يحاول آخرون البقاء «معلّقين» بالدعم، وإن كانت الشحنات التي يأتون بها قليلة جداً مقارنة بالآخرين، وقد أدى هذا الأمر إلى «أنني بقيت مع مستشفى واحد، في الوقت الذي كنت فيه مورداً لـ 15 مستشفى».
الدعم «ع العمياني»
ليس الدعم الاستنسابي الشبهة الوحيدة في ما يجري، إذ يستغرب البعض الدعم «ع العمياني» الذي فتح شهيّة بعض الشركات المسيطرة على السوق إلى ابتزاز المستشفيات والأطباء والمرضى عبر فرض أسعارٍ مختلفة للمستلزم الواحد… رغم الدعم. ففي وقت الذي لا تزال فيه بعض الشركات تسلّم المستلزمات المتبقية في حوزتها بالأسعار التي دخلت بها مرحلة الدعم، عمدت أخرى، ومعظمها شركات كبرى، الى رفع اسعارها الى سقوف غير اعتيادية. ويشير نقيب أصحاب المستشفيات، سليمان هارون، إلى أن «بعض الوكلاء أو التجار يبيعون بعض المستلزمات على أساس أنها غير مدعومة، لذلك لم نعد نعرف ما هو المدعوم وما هو غير المدعوم». فـ«نظرياً المستلزمات مدعومة، لكننا نتسلم الكثير من المستلزمات خارج الدعم من دون أن نكون قادرين على فهم خلفيات تلك الشركات». ويضيف: «الإشكالية الأكبر ليست في وزارة الصحة، بل لدى جهتين أساسيتين: إما أن مصرف لبنان يسيّر حسب ما هو متوفّر من أموال أو أن شركات الاستيراد تكذب».
طرفان يتحملان اليوم المسؤولية. وإذا كانت القدرة على فهم الأسباب معدومة بسبب صعوبة التواصل مع مصرف لبنان، تكتشف المستشفيات وأطباء غسل الكلى وبعض شركات الاستيراد المتضررة «الابتزاز الذي تمارسه بعض الشركات على المكشوف. وهو ابتزاز واضح، فإما أن نرضخ لما تطلبه الشركة من أسعار أو أن المستلزم غير موجود»، يقول أحد الأطباء. أما السيناريو الجديد الذي تتبعه بعض الشركات، فهو «امتناعها عن تسليم المستلزم في المستشفى مع اختلاف سعره عن سعر الدعم، ما يضطر الطبيب أو المريض إلى شرائه من مستودعات الشركات بالسعر الذي تفرضه… ومن دون فاتورة!
خوّة تحت ستار الدعم. لا تفسير آخر لما تفرضه الشركات اليوم. والأمثلة واضحة ومنها، مثلاً، الفلتر الذي يبلغ سعره مدعوماً 9 دولاراتٍ، وتبيعه الشركات بـ 13 و15 وأحياناً 16 دولاراً. وإذا كان البعض يبرّر ذلك باختلاف نوعية المستلزم واختلاف سعره في الأصل لدى الشركات الأمّ «إلا أن المشكلة تكمن في أنه لم يعد هناك سعر معتمد لنعرف هل هذا دقيق أو لا»، بحسب أحد الأطباء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى «bloodline»، فسعره في الأصل يبلغ بين 2,5 دولار و3 دولارات، فيما تسلّمه بعض الشركات للمستشفيات بـ 6,5 دولارات. الأمر نفسه ينسحب على صندوقة الأسيد وبقية مستلزمات غسل الكلى. أما الأنكى من كل ذلك فهو أن الشركات المحلية التي تنتج بعض المحاليل «تبيع المحلول مدعوماً أغلى من المستورد».
بات السعر بـ«الشلفة»، يقول الأطباء. ويزيد هارون بأن «الفوضى» هي التي تحكم سوق المستلزمات، مشيراً إلى لعب بعض أصحاب الشركات «بالنار، عبر الالتفاف على آلية الدعم، رغم أن هؤلاء مدعومون بقرار من وزارة الصحة العامة على أساس معادلة 7 ـــ 93%، أي 93% على أساس دعم على الـ 1500 ليرة». ويؤكد أن «بيع المستلزم على أساس أنه غير مدعوم غير مسموح به، فقضية غسل الكلى لا تحتمل الشطارة، وخصوصاً أننا نتحدث عن مرضى مدى الحياة أو إلى حين إجراء عملية زرع، وهذا دونه أكلاف كثيرة».
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن «شركة واحدة باتت معروفة لا تأتي بمعاملاتها على وزارة الصحة لأنها لا تريد أن تبيع على المدعوم وقد أبلغت الوزارة بذلك». والسؤال هنا: كيف تسمح الوزارة بتمرير هذا الأمر، وخصوصاً أن وضع مرضى الكلى لا يحتمل.