سلام يتحدّى إرادة قوى أم إرادة الناس؟
كتب ابراهيم الأمين في “الأخبار”:
يبدو أن نواف سلام سينجح حيث فشلت الكرة الأرضية، لجهة بروز تحالف غير مكتوب بين الكتل النيابية، بفضل إدارته لعملية تأليف الحكومة. قد يكون هذا الكلام مريحاً للرجل أو لبعض المتحمّسين له من «التشرينيين». لكنّ واقع الأمر لا يشي بقيام تحالف حزبي في وجه سلام، بل ببروز مشكلة عامة لدى غالبية هذه القوى، بسبب المعايير التي يعتقد الرئيس المكلّف بأن من حقه تثبيتها في تأليف الحكومة، خصوصاً عندما يقول إن القوى السياسية التي سمّته أو التي يريد ثقتها في مجلس النواب، لا يحق لها التدخل الفعلي في تشكيل الحكومة.
اللبنانيون يميلون، بالفطرة، إلى دعم أي وجه إصلاحي لمعالجة مشكلاتهم الكبيرة، وهم مضطرون إلى بثّ الأمل عند أي استحقاق. هكذا أعربوا عن أملهم بتغيير كبير بعد انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية، وربما زاد أملهم بعد الإتيان بوجه من خارج الطبقة السياسية لتأليف الحكومة. لكنّ هذه الآمال لا ينبغي وضعها في خانة الوقائع الصلبة. وهو أمر يجب على سلام أن يلتفت إليه قبل الآخرين، إذ إن الفارق هائل بين ما يمكن وصفه بـ«المزاج العام» وما له صلة بأدوات التغيير الفعلية.
عشية الانتخابات النيابية الأخيرة، كان لبنان يعيش سنوات قاسية من الانقسامات والتجاذبات، تعزّزت مع حراك تشرين، وتفاقمت مع الانهيار المالي والاقتصادي، ليأتي تفجير المرفأ ويفرض حالة من الغضب العام على الدولة والقوى السياسية. لكن، عندما وُجهت الدعوة إلى هؤلاء اللبنانيين أنفسهم للتوجه إلى صناديق الاقتراع، جاءت النتائج على صورة المجلس النيابي الحالي.
المزاج العام الداعم للإصلاح لا يعني أن الناس متفاهمون على طبيعة هذا الإصلاح
ولا على من يقوم به
والحق يقال إن الأمر لا علاقة له بحسابات خاصة لدى كل فرد في لبنان، بل بأمور كثيرة، لكنّ المؤكّد أن الصورة التي رُسمت للناس بعد حراك تشرين، لم تكن أصلاً بالحجم الذي جرى تصويره من قبل ماكينة سياسية وإعلامية ودبلوماسية. وهو ما ظهر عندما تبيّن أن محفّزات الاقتراع عند اللبنانيين لا تزال تخضع لاعتبارات تتأثر كثيراً، وكثيراً جداً، بالانقسام الطائفي والمذهبي ولو جرى عرضه بطريقة سياسية.
ولأن الوقائع الصلبة على هذا النحو، كانت الاختراقات للكتل الشعبية الكبيرة محصورة بعدد محدود من النواب، استفاد بعضهم من طبيعة القانون الانتخابي، وليس من حجم كبير من الأصوات، فيما استفاد بعض آخر من تطورات سياسية كبيرة، كما هي الحال عند الناخبين السنّة الذين تأثّروا بقرار إبعاد سعد الحريري عن الساحة السياسية. وقُدّر لشرائح اجتماعية ذات طابع علماني أن تجمع قواها محقّقة اختراقات جدية، كما حصل في الجنوب، علماً أن بعض «التغييريين» لم يكونوا قليلي الاستخدام للمال في الانتخابات.
مع ذلك، فإن القاعدة الاجتماعية للقوى الممثّلة في مجلس النواب تعكس واقعاً حقيقياً، بمعزل عما إذا كان يعجبنا أم لا. كما أنه ليس صحيحاً أن قانون الانتخاب منع الناس من القدرة على تجميع أصواتهم بشكل جيد، ولو أنه غير كافٍ، خصوصاً أن النسبية تحتاج إلى دوائر انتخابية كبرى. لكنّ العدالة تبقى ناقصة في كل الأحوال، كما هي الحال عند أي تمرين لعدد الأصوات التي نالها، مثلاً، كل نواب التغيير (13 نائباً في كل المحافظات) ويصل مجموعها إلى 79528 صوتاً في كل لبنان، وهو رقم يبقى أقل من الأصوات التي حصل عليها نائبان مثل نبيه بري ومحمد رعد اللذين جمعا نحو 90634 صوتاً بين الزهراني والنبطية فقط.
ويمكن تعميم التمرين على بقية الكتل والمناطق. لكنّ المهم في الأمر أن نواف سلام يرتكب الخطأ الكبير إذا كان يعتقد بأن ظروف تأليف الحكومة تطابق ظروف انتخاب العماد عون، لأن القرار الخارجي كان حاسماً بقوة بمنع أي نقاش حول رئاسة الجمهورية، واضطر كل النواب (ما عدا ميشال ضاهر الذي أيّده منذ البداية أو الذين صوّتوا ضده) إلى السير خلف الإرادة الخارجية. بينما في حالة سلام، جاءت كلمة السر بالتواتر، وأُرفقت بدعوة إلى تفاهم مع القوى السياسية لتشكيل الحكومة. وإذا كان سلام يراهن على دور خارجي يلزم النواب بمنح أي حكومة يشكلها الثقة، كما ألزمهم بتسميته أو انتخاب عون، فهذا يعني أننا أمام احتمالين: إما دعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة لإنتاج سلطة جديدة في البلاد، أو أن لبنان سيقع تحت نوع جديد من الوصاية، ولو كانت ترتدي معطف الإصلاحات.
الواقعية هنا ليست دعوة إلى التخلّي عن الطموحات بإحداث تغيير جدّي. لكنها تعني أن الاستقرار الذي يحتاج إليه البلد للمضي في خطوات إصلاحية، يتطلب تسوية مع من حصدوا أصوات اللبنانيين الذين كانوا أحراراً في خياراتهم، وليس كما كانت عليه حال نوابهم الذين ساروا خانعين خلف من يريده السيد الأبيض!